مقالات

هوميروس والإنسانية المتحضرة

يتحلى الإنسان المتحضر بفهم جيد للحقوق والواجبات؛ من حق للغير في الحياة، والحرية، والشعور بالأمن، والأمان، وما عليه هو ذاته من واجبات ومسؤولية تجاه نفسه وأهله ووطنه، ومن ثم فهمه لمعنى الإنسانية وكيفية تحقيقها على أرض الواقع.

عند الحديث عن الحرية والمسؤولية المجتمعية، يتبادر إلى الذهن ما أورده الشاعر اليوناني هوميروس (Homerus) فيما كتبه من أشعار.

الشاعر الإغريقي هوميروس

يُمثّل هوميروس نقطة أولى ومحورية، في الدراسات الأدبية الأوروبية القديمة، فمنه يبدأ الأدب الأوروبي القديم والحديث، بل وجميع الآداب العالمية.

كانت شخصية هوميروس، ولا تزال، محور كثير من الدراسات، بين مؤيدة لوجوده وأخرى معارضة. ربما كان أبو التاريخ هيرودوتوس (هيرودوت) اليوناني سببًا في هذا اللغط وتلك الحيرة، خاصة عندما ذكر أن هوميروس كان يسبقه بأربعة قرون. وإن رأى آخرون أن هيرودوتوس يسبق تاريخ وجود هوميروس بثلاثة قرون على الأقل، وهو وقت اندلاع الحرب الطروادية.

كان هوميروس هذا، شاعرًا كفيفًا، حافظًا لتراث أمته، ولديه ذاكرة قوية، تسع عشرات الآلاف من الأبيات الشعرية والقصص البطولية والرومانسية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ملحمتا هوميروس عند المؤرخين

لقد نسبت إليه المصادر الأدبية والتاريخية ملحمتين عظيمتين خالدتين، هما ملحمتا الإلياذة (Iliad) والأوديسيا (Odessa).

لقد تجلت، في هاتين الملحمتين، عظمة هوميروس وإنسانيته، وإيثاره الآخرين على أمته اليونانية.

سرد هوميروس أن أمته اليونانية اتجهت بجيوشها من أجل استرداد امرأة، اختطفها أمير شرقي، من سكان مدينة طروادة، والتي كشفت الآثار عن وجودها بالشمال الغربي التركي حاليًا، إلا أنه بسبب التحصين الجيد لمدينة طروادة، لم يستطع اليونانيون دخول المدينة، فظلوا يحاصرونها على مدى عشرة أعوام، كانت خلال تلك المدة، يفتح الطرواديون أبواب مدينتهم، ويحاربون اليونانيين، ثم يدخلون ويغلقون أبواب مدينتهم.

سرد هوميروس، في ملحمته الإلياذة، كثيرًا من مشاهد الحرب والقتال، وكان ينتهز الفرصة، ويُقدّم مشاهد مفعمة بالإنسانية، بل والتحضر الإنساني، خاصة عندما كان يعرض صورًا من داخل المجتمع الطروادي، لقد منح هوميروس كثيرًا من الصفات الإنسانية والحضارية لجانب أعداء أمته اليونانية، في حين أتى بصور تنم جميعها عن بطولة حربية غاشمة، بعيدة كل البُعد عن الإنسانية، تقتل بلا رحمة، أو شعور بحق الآخر في الحياة والحرية، عندما كان يتعرض لتصوير اليونانيين، الذين لم يتركوا جريرة أو جريمة حرب، إلا وأتوا بها في حربهم ضد طروادة.

ملخص الإلياذة هوميروس

الشاعر الإغريقي هوميروس

جعل هوميروس من الطرواديين حاملي رسالة، وقيم إنسانية للبشرية جميعها، فالزوج يعلم مسؤولياته نحو أفراد أسرته، من زوجة وأولاد، يفيض عليهم بمحبته ورعايته لهم، ويعلم الملك مسؤوليته نحو أفراد شعبه، وما يجب عليه من القيام به من أجل حريتهم وسعادتهم، وشعورهم بالأمن والأمان.

حتى المُحب الولهان الطروادي، يعلم مسؤوليته تجاه من يحب، وكيف يسعده. والزوجة الطروادية تعلم مسؤولياتها تجاه زوجها، وكيف تُخفف عنه همومه وتُشاركه أحزانه وآلامه، فهي السند وقت الضيق، والأم القوية الحامية الحانية لأبنائها وقت غياب الأب. والرجل الطروادي يعرف أنه لا يجب أن يتخلف وقت أن يكون مبادرًا، وفي الصفوف الأولى، ومهما كانت العواقب، وعليه أن يترك سيرة طيبة لأطفاله وأفراد أسرته يتذكرونه بها.

يقف اليونانيون على الجانب الآخر، في أشعار هوميروس، بغطرسة لا حدود لها، والرغبة الدائمة في تحقيق انتصار حربي على الأعداء. يخوض اليونانيون الحروب من أجل الانتصارات وسلب الآخرين خيراتهم واستعبادهم، وليس دفاعًا عن حرية وطن وشعب، أو إعلاء لمعنى المسؤولية المجتمعية والحرية الإنسانية.

في ملحمة الإلياذة يقف الطرواديون في مواجهة اليونانيين المهاجمين لبلادهم، دفاعًا عن حرية وطنهم وتحقيق أمنه وسلامته، وحياة ومستقبل أبنائهم، في الوقت الذي يخوض فيه اليونانيون الحرب من أجل سلب الآخرين خيراتهم واستعبادهم، ليس أكثر، فالطرواديون عند هوميروس مُمثلون للإنسانية في أجمل معانيها؛ من حرية وأمن ومسؤولية، بينما اليونانيون كانوا يمثلون الغطرسة والهمجية والقرصنة.

مقالات ذات صلة:

نرى تاريخنا بالطريقة التي كتبها الغرب

تعلّم اللغات الأجنبية قديمًا

بوئيثيوس ومكانته الفكرية والثقافية

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ.د صلاح السيد عبد الحي

أستاذ دكتور بقسم الدراسات اليونانية واللاتينية بكلية الاداب جامعة سوهاج. ومدير مركز حضارات البحر المتوسط.