“السيدة كاف”.. تنويعات عن عالم موجع غريب
تتمنى ألا تنتهي من قراءة المجموعة القصصية “السيدة كاف”، للمصري عاطف عبيد (روافد للنشر والتوزيع)، من قدر المتعة التي تحصل عليها حين تطالع قصصها وأقاصيصها، المكثفة بلا إخلال، والمعتقة بلا إقلال، والمتنوعة إلى حد بعيد، والتي تنم ليس فقط عن خبرة مؤلفها في إبداع هذا اللون من السرد، بل أيضًا عن تجاربه الحياتية وذكرياته الحاضرة، الممتدة من أضيق ترعة في ريف قرية عزلاء منسية من قرى محافظة “كفر الشيخ” بدلتا النيل، إلى بهو فندق فخم في مدينة “دبي” أو مقعد وثير في طائرة تحلق نحو أوروبا.
هذا التنوع الحياتي المبثوث في سرد باذخ على هيئة قصص، لا تتجاوز أكبرها ستمائة كلمة وأقصرها بضع كلمات، يدفعك إلى أن تتساءل عن موقع صاحبه في دنيا الساردين، وربما تبحث عن مجموعتيه السابقتين؛ “خوفو يعلن إسلامه” و”سماوي”، لتعرف كيف تطور إلى هذا المستوى بعيدًا عن الأضواء المبهرة، التي تغرق رؤوس بعض من هم أقل منه قامة وقيمة، وقطعًا ستنتظر في لهفة روايته التي على وشك الصدور “أولاد فبراير”، لكنك ستجد السلوى في إعادة قراءة قصص مجموعته التي نحن بصددها، والتي إن تفاوت مستوى قصصها، فإن أغلبها حافل بالدهشة، ومحبوك على نحو جيد.
عوالم السيدة كاف
“كاف” في المجموعة سيدة لعوب، يصفها الكاتب بأنها “مخلصة في كل أيامها، تخلص في عشقها يومين، وتغدر بعشاقها يومين، وتتعرف على عشاق جدد في يومين.. ويوم الجمعة تنام بين يدي زوجها في إخلاص ألعن من الخشوع”، وهي التي “تحتفظ في حقيبتها بذكريات كل رجل عرفته”. تحسب أن هذا المفتتح سينسحب على كل شخصيات المجموعة، لكنك تفاجَأ بصنف آخر من النساء إلى جانب اللاهيات والخائنات وبنات الهوى، وهن اللاتي يكافحن في الحقول والأسواق وتربية الصغار، ونساء صالحات خاشعات يرفعن أكفهن بالدعاء من أجل أن ينعم ذويهن بالراحة والسكينة، وحبيبات أوفياء لأحبائهن.
وتبدو أكثرهن نبلًا بطلة أقصوصة “بطتان”، إذ يقول النص عنها: “كانت تحتفظ دومًا في دارها ببطة، تذبحها لزملاء ولدها الوحيد. كانت تطلب منه أن لا يدعوهم مجددًا قبل أن تكمل تربية بطة جديدة.. وبين البطتين كانت تنام هي جائعة”.
في المجموعات شخصيات متناثرة موزعة على أوقات الأيام وخرائط الأماكن، تفتش في ذاكرتك عنها وأنت تمضي بين السطور، وتتساءل: أين قابلت هؤلاء؟ فهم بشر من لحم ودم، بأفراحهم الصغيرة وأتراحهم الكبيرة، وسعيهم الدائب إلى تحسين شروط الحياة، التقطهم الكاتب في براعة، وأضاف إلى حيواتهم التي عايشها بعض خياله، فأكسب بعض أفعالهم المعزولة، والتي قد تمر على غيره مرورًا عابرًا، زخمًا شديدًا.
السيدة كاف مجموعة قصصية تترك فراغات ليملأها القارئ
يعتمد الكاتب على طريقة الحذف والإزاحة، إذ إن المسكوت عنه أو الفراغات في قصصه شاسعة، وعلى القارئ أن يملأها من عنده، إذ يطرح ومضة واحدة في حياة كل شخصية من شخصياتها، تاركًا للخيال طريقًا وسيعًا لاستكناه كثير مما يتعلق بها، ملامحها وخبرتها ومسارها. وبلغ الحذف مداه في أقصوصة قصيرة جدًا لا تزيد عن أربع كلمات يقول فيها: “أرادت التوبة: فاغتسلت بالخمر”، أو تلك التي تقول: “ساعة المطر، الكل يتذكر رأسه العارية”.
في الغالب الأعم يميل الكاتب إلى أن ينهي كل قصة بمفارقة، فيترك القارئ يطالع السطور حتى قرب النهاية، دون أن يعرف كيف ستكتمل القصة بعد كلمات معدودات، لكنها تكتمل، وتثير في النفس عجبًا، قد يدفع إلى إعادتها للوقوف على علاقة النهاية بالبداية، ويعرف كيف يصنع الاندهاش، وكيف لبعض القصص أن ينطوي على فلسفة عميقة، أو يرسم صورة فنية لجانب من تدابير الحياة، وهي طريقة برع فيها أدباء كبار مثل المصري محمد المخزنجي، والسوري زكريا تامر، ويبدو للأول، على الأقل، تأثير واضح على الكاتب، ليس من باب تقليده، إنما مضاهاته دون الأخذ عنه، لا سيما في المضامين.
هوامش على مجموعة السيدة كاف القصصية
يؤدي العنوان عند الكاتب وظيفة مفتاحية في فهم القصة، أو يختزل مضمونها غير المباشر في كلمة أو كلمتين، وبعضها ينطوي على طرافة ظاهرة مثل “ثروة الكازوزا” و”رجل وعشرة حمير” و”طرفة جدي” و”ثورة الأحذية” و”مزاح البطاطا الشقراء” و”المرأة السنترال” و”الموت على جنب”، وبعضها مأخوذ من اللغة المتداولة على ألسنة الناس مثل: “فلافل بالسمسم” و”سيجارة لف” و”حورية بنت العمدة” و”أيام عز” و”نعناع بري” و”كمال ابن خالي” و”قطعة جبن” و”معذرة زوجي العزيز”.
تحت هذه العناوين وغيرها قسم الكاتب مجموعته إلى أربعة أقسام، خصص الأخير لأقاصيص قصيرة جدًا تحت عنوان “ومضات سردية”، والبقية أسماها: “من مذكرات المرحوم عيسى المهدي”، ووزعها على ثلاث محطات، فإن هذا التقسيم لا يعني أبدًا وضع خطوط فاصلة بين مضامين مختلفة، أو شخصيات أخرى، أو أسلوب فني مغاير، ولا يبدو أن أول المجموعة وآخرها فيه تباعد في مستوى الكتابة، إنما قصصه القوية والأقل قوة متناثرة في ثنايا العمل كله، بما يعني أن هذا التقسيم يقول بوضوح أن هناك تماهيًا بين “المهدي” وبين الانكسار والهزيمة التي تسيطر على أغلب الشخصيات، وإن كان وجود هذه الشخصية التي أفردت لها قصتين وأقصوصة وظهرت بحالات متفاوتة، مسألة شكلية، لو رفعت من المجموعة ما تأثرت بها النصوص على الإطلاق.
بعض الأقاصيص تنطوي على فلسفة أو حكم وتقدم أماثيل ظاهرة، دون إخلال بفنيتها، وقد بلغ الكاتب الذروة على هذا الدرب في أقصوصته التي صور فيها الحرية برسم جديد، إذ يقول تحت عنوان “حرية”: “على حافة قلبي تجلس امرأة، تضحك من وراء ضلوعي، كلما مر أمام القضبان أحد.. تنادي المارة.. تعاكسهم من بين أزرار قميصي الأبيض المخطط.. وما إن يكثر عددهم تغلق أزرار القميص، وتدخل وهي تعايرهم بالحرية”.
مقالات ذات صلة:
الأديب سعيد نوح ولعبة التجريب الدائم
لعبة العروش .. النهاية التي نستحقها
قيس ونيللي .. شعر وسحر تقتلهما كوابيس مزمنة
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا