السلام الحقيقي
السلام الحقيقي
في زمن تتسابق فيه الدول والمنظمات بالدعاية “للسلم العالمي” هذه الكأس المقدسة أوالراية المنشودة التي بها تُحقن الدماء ولها تقوم النزاعات كان لا بد لنا من وقفة مع هذا المفهوم لتحليله وتقييم السلام بمنظور عام وشامل ولكن دقيق ومحدد نستطيع منه استخلاص المعنى الحقيقي للسلام المنشود.
يُعرّف السلام في الوعي العام على أنه ما يقابل الحرب والنزاع و كل أشكال العدوان. وهذا التعريف مع تكريسه في الأذهان وتعميق صورته في الخيال من خلال المدارس والأفلام والأغاني التي تهذّب له مذهبه في الوعي واللا وعي الإنساني يخلق حالة إدراكية من التخاذل وكره النزاع بالكلية وتفضيل السلمية المطلقة والقبول بواقع التفاوض والنقاش والمساومات دون سقف أو حد أقصى أو خطوط حمراء.
لعل هذا هو أكثر ما يميز مباحثات السلام التي تجري على معظم مستويات ساحات النزاع العالمية. حيث يجلس فيها المستبد المحتل على طاولة الحوار مع المستضعف المقهور أو من يمثله في تمثيلية جوفاء تتكرر حلقاتها يوم تلو الآخر دون أن نرى بريق أمل أو تغييرا في أفق الصراع الحقيقي الواقع على الأرض. ويصبح تعريف السلام هو التفاوض من أجل السلام. فإما أن نصل لاتفاق قبل أن تتم إبادة المستضعفين أو لا نصل لاتفاق فيستمر النزاع الحقيقي على أرض الواقع حتى يباد كل المستضعفين وينتصر المحتل. فالمفاوضات هنا ليست إلا ستارا من الأكاذيب مسدولا ليغطي واقع المعاناة الأليم. وفي هذه الحالة لا نعتبر من يمثل المستضعفين بطلا مغوارا، بل هو مشارك في الجريمة، “جريمة الاستسلام والإبادة الجماعية” لأهله وتوهين صورة بلده أمام الرأي العام.
إن التفاوض يصبح تفاوضا عندما يمتلك الجميع “كروت” للتفاوض. أما عندما يمتلك أحد أطراف “التفاوض” كل الكروت فلا يمكننا حينها أن نطلق عليه كلمة “تفاوض”. على ماذا نتفاوض والحق منزوع القوة والعزيمة على المثابرة والكفاح؟! قد تكون مقومات الدفاع عن الحق كثيرة وضرورية لكن أهمها هو استعداد أهل الحق الدفاع عنه باستماتة فإما أن يموتوا دون حقهم أو يحققوا أهدافهم المستحقة. فوجود العزيمة والإصرار على الكفاح هو المحرك الأساسي في توليد كروت التفاوض على طاولة المباحثات. فالمحاربون هم من يصنعون الإنجازات ومواقف الضغط التي يستغلها المفاوضون في إرغام المنازع على تقبل شروطهم. حينها، حتى المماطلة من قبل الخصم لا تكون في صالحه أحيانا، لأن الوقت قد يجلب المزيد من الضغط على الخصم إن تحققت للمستضعفين المزيد من الإنجازات الميدانية.
أتعجب دائما من موقف بعض المنافقين الذين يقبلون بمفاوضة العدو وعندما تفشل المباحثات يعوّلون الفشل على المقاومة التي يشنها المستضعفون على الخصم أثناء وقبل وبعد التباحث. وكأنهم أهملوا أن تلك الانتصارات الميدانية هي ما تصنع الإنجازات التفاوضية لا العكس، وأن العلاقة بين الكفاح الميداني والعمل التفاوضي علاقة تكاملية لا تنافرية. طبعا كل شيء يخضع لميزان التنسيق الداخلي في معسكر المستضعفين. لكن اليوم نرى المفاوضين يرفضون التنسيق مع المقاومين بل يخافون من الظهور معهم كأنهم عار وتهمة لا عز وافتخار لكلّ مناضل. إنها فلسفة “التبرّؤ” من المقاومة والكفاح والانحدار في منزلق لا نستطيع أن نسميه منزلق السلام بل منزلق الاستسلام والخنوع والرضوخ المهين لكرامة الإنسانية.
علينا أن نعيد تقييم السلام كقيمة اجتماعية تخضع لقيم اجتماعية وأخلاقية أسمى. لأن وضع السلام المطلق كقيمة وغاية عليا هو وضع كاذب وغير حقيقي لا يسمح بالتفرقة بين السلام الحقيقي والاستسلام المذلّ. فالقيمتان تشتركان في السلمية ولكن تختلفان في موقف المستضعف من هذه السلمية. فكل وضع سلمي يضع صاحب الحق في وضع الرضوخ والذل هو استسلام ورضوخ غير مقبول. أما السلام الحقيقي الذي ننشده هو السلمية في ظل قيمتي “العدل” و”الكرامة”. فالعدل هو القيمة المطلقة التي ينبغي أن ترضخ لها كل الأعمال التفاوضية والميدانية في الاعتراف بمنظومة الحقوق والواجبات والسعي لتحقيقها، وعليه فكل “سلام” لا يحقق قيمتي “العدل” و”الكرامة” هو استسلام في قالب سلام زائف، ولا يمكن لأي شريف أو عزيز أن يقبل به
لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.
ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.
.