إصداراتمقالات

السعي بين المثالية والجهد (3)

نعود هنا لمثل عامل البناء ولنتخيل كيف كانت الرهبة لديه وهو يدخل قاعة حمل الأثقال ولا زال لا يدرك تلك الملكة التي اكتسبها من العادة التي أتقنها. نجده مرتبكا وهو يري العضلات المفتولة ويسمع صيحات الحماس والتشجيع وقرع الأثقال وهي تتراقص على العواميد والروافع كاللعبة بين يدي الطفل. فهو عندما يتوجه أول مرة ليحرك هذا الثقل أو يؤدي ذاك التمرين لا يصدق أنه يستطيع ليفاجأ أن الحمل خفيفا فيطلب زيادة الحمل في محاولة منه لاكتشاف حدود قدرته حتى يدرك المقياس الحقيقى للقوة الكامنة التي اكتسبها من عاداته وأعماله الروتينية. وينطلق من تلك النقطة وهذا الحد أو الحاجز بعادات جديدة يحاول إتقانها لتتحول لملكات جديدة تطور من قدراته ليتطور في التمرين ليتحمل المزيد والمزيد من العبء والثقل أو المسؤولية.

إننا وبعد أن ندرك الأبعاد الحقيقية التي يطابق فيها هذا المثل سعينا في الحياة ندرك في المقام الأول قوتنا وقيمتنا الحقيقية والتي نكتشف أن حدودها لا تنتهي ولا تتوقف إلا عند نزعاتنا الاستسلامية والتخاذلية. أما في المقام الثاني فندرك كيف أن المعاناة والتعب والجد هو السبيل نحو تعميق أثر هذا السلوك أو السعي في النفس باكتسابها هذه الملكات بصورة أوسع ومقياس أكبر.

هنا أود أن أشير لنتيجة هامة لا بدّ من التنبيه لها منعا للّبس واختلاط المفاهيم. فالناظر لهذا الأمر قد يستنتج في الوهلة الأولى هذا الاستنتاج. أن كل جهد وتعب وصعوبة تؤدي لاكتساب الملكات، وأن كل اكتساب للملكات هو طريق للنجاح، إذًن فإن كل جهد وتعب وصعوبة هو طريق النجاح. وهذا الاستدلال فاسد لا شك ولكن الغموض في فساده هو لفساده في المادة لا في الصورة. فالصورة الاستدلالية سليمة لكن اختيار موادها وترتيبها يشوبه النقص والخطأ.

فالنتيجة توصل المفهوم بأنه يمكنك الاستدلال على صحة طريق سعيك من فساده بصعوبته، وذلك لأنّ كل صعب منهك يكسبك الملكة وهذا مغاير للواقع. فالعمل المنهك المتعب دون ترتيب وتنظيم لا يؤدي لاكتساب الملكة بل قد يؤدي لتدمير الملكات والنفور منها كمن يتدرب على رفع الأثقال بشدة وبجهد ولكن بأسلوب أو ترتيب خاطئ فلا يحرز الملكة بل يتضرر جسديا من هذا الأسلوب الخاطئ حتى وإن كان منهِكا. أو أن من يجتهد ويتعب في التخطيط لجريمة أو لعمل فاسد أو نشر خلق سيء في المجتمع فهذا على الرغم من اجتهاده وتعبه في عمله إلا أنه لن يكتسب الملكات السليمة والفاضلة التي تضمن له تحقيق السعادة وهذا نتج عن فساد في رؤيته وأيديولوجيته التي يشخص بها الحق والخير والباطل والشر بمعزل عن الصعوبة أو السهولة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أما تصحيح الاستدلال فيكون بأن كل اكتساب للملكات السلوكية يأتي بإتقان العمل، وكل إتقان للعمل يأتي بالجهد والتعب، فينتج أنّ كل اكتساب للملكات يأتي بالصعوبة والتعب. ولتوضيح الفرق فإن النتيجة الأولى تضع الجهد والتعب كعنوان تحت إكتساب الملكات بينما النتيجة الثانية تعكس المواقف فتوضح أن هناك سبلا كثيرة للسعي بها جهد وتعب ولكن ليس بالضرورة أنها كلها فقط لتحقق هذا الشرط فيها تؤدي لاكتساب الملكات وذلك لافتقادها للشروط اللازمة الأخرى والتي أوضحناها في الجزء الأول من السرد المتعلق بالمنطلقات والغايات والرؤية. ولذلك فإن فقط بعض سبل السعي المتعبة المجهدة هي التي تؤدي لاكتساب الملكات الفاضلة والتي تتحقق فيها هذه الشروط. بمعنى آخر يوضح الدليل الثاني أن المشقة أو التعب ليس السبب الكافي لاكتساب الملكة على الرغم من كونه ضروريا وذلك لوجود شروط أخرى ضرورية تمتنع النتيجة المرجوة بامتناع تحققهم.

يتبع..

حسن مصطفى

مدرس مساعد في كلية الهندسة/جامعة الإسكندرية

كاتب حر

باحث في علوم المنطق والتفكير العلمي بمركز”بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث”

صدر له كتاب: تعرف على المنطق الرياضي

حاصل على دورة في مبادئ الاقتصاد الجزئي، جامعة إلينوي.

مقالات ذات صلة