إصداراتمقالات

السعي بين المثالية والجهد (2)

نريد بعد توضيح تلك الأسس أن نتوجه نحو تشخيص السعي من حيث التطبيق والجانب العملي. نجد هنا بعض الملاحظات والاستقراءات المفيدة. المثال الأول هو عامل البناء، فعامل البناء الذي يزيح يوميا آلاف الكيلوجرامات من الطوب والأسمنت والحديد قد لا يدرك في أول وهله عند دخوله لنادي رياضي لتكامل الأجسام أنه قادرعلى أداء التمارين ذات الأحمال الثقيلة والأوزان الضخمة. ولكن سرعان ما يدرك بعد عدة تمارين قليلة حجم قوته الحقيقية. وهو بلا شك يرجع تلك القوة في سببها إلى عادته أو عمله الذي يؤديه كل يوم مما أكسبه تلك الملكة أو الكمال الجسدي “القوة” التي استطاع أن يدرك مقياسها في ظروف طارئة جديدة لم يكن يدرك في البداية أنه مستعد لها.

المثال الثاني هو طبيب الأسنان في مقابل بائع السكاكر والحلوى. فالأول تظهر نصائحه وطريق “السعي” الذي يصفه للأطفال كمذهب سلوكي بعدم الإكثار بتناول الحلوى كي لا تفسد أسنانهم، فإن هذا الكلام يظهر للأطفال مملا غير مستساغ وصعبا. بينما صانع الحلوى بإعلاناته المبهرجة ومقولاته المعسولة على الرغم من فسادها بتحفيزها للأطفال على تناول المزيد من الحلوى دون اكتراث لصحتهم، فإنها تظهر لهم حلوة مستساغة ويقبلون على تنفيذ سعي الحلواني عن الانصياع لسعي الطبيب حتى مع علمهم التام بالمفاسد والفوائد.

والعبرة من المثال الأول هو أن العادة تكسب الملكات. فالعادة المادية تكسب الملكات المادية (عامل البناء ورفع الأثقال) والعادات الروحانية تكسب الملكات الروحانية. أما المثل الثاني فيستفاد منه أن الإنسان إن لم يكن لديه ما يكفي من الإرادة والعزيمة والإصرار على تشخيص وسيلة سعيه، فإنه حتى مع حصول العلم الكافي لديه والذي يمكنه من التشخيص السليم للصواب والخطأ فإنه سيختار الطريق الخاطئ أو سعي الحلواني والذي دائما ما يكون مغريًا لتزينه بالحلوى والترفه وإرضاء الشهوات مما يجذب الإنسان نحو تفضيل هذا المسار على المسار الأصلح لتملك شهواته وغضباته وأوهامه الخيالية على عقله وإدراكه.

ومنه نفهم أن الملكات التي نكتسبها تعتمد طبيعتها على اختيارات حياتنا ودرب السعي الذي نختاره. فدرب الحلواني يكسب الملكات الشهوية والغضبية لما فيه من تغليبهما على العقل، أما درب الطبيب فيغلب العقل والإرادة والعمل عليهما فيكسب الإنسان الملكات العقلية حتى وإن اقتصرت على الناحية العملية والجوانب المادية. وهو محور ما نودّ توضيحه في هذا النقاش وهو أنه حتى في أبسط المطالب المادية يتوجب علينا تلبية شروط التوفيق في السعي للتحقق هذه المطالب. فاختيار طريقة الإنتاج الأصح والأسرع والأوفر وإتقان تلك الطريقة بالتدارس والتدريب والتكرار (العادة) حتى تتحول لملكة جسدية تؤدى بالحد الأدنى من الانشغال الفكري هو أساس إذا كان المطلوب إنتاج منتج جيد نستطيع المنافسة به في السوق. وللتوضيح لا تكفي المعرفة بالنموذج المثالي للإنتاج والمنتج لنجاح التجارة لكن ينبغي التدرب على هذا النموذج وإتقانه قدر الإمكان ليتحقق النجاح فعلا بعد أن كان كامنا في النموذج بالقوة فقط.

يتبع..

اضغط على الاعلان لو أعجبك

حسن مصطفى

مدرس مساعد في كلية الهندسة/جامعة الإسكندرية

كاتب حر

باحث في علوم المنطق والتفكير العلمي بمركز”بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث”

صدر له كتاب: تعرف على المنطق الرياضي

حاصل على دورة في مبادئ الاقتصاد الجزئي، جامعة إلينوي.