فن وأدب - مقالاتمقالات

المبرمج الشاعر العناق الأبدي بين الأدب والعلم .. الجزء الرابع

إذا كان الأمر بهذا التواشج والترابط بين الفنون والعلوم البحتة، فإن من باب أولى، أن يزداد هذا الترابط مع العلوم الإنسانية. فمثلًا: قد يندهش كثيرون في هذا المساق من انشغال علماء الجغرافيا بالأدب حين يرسم ملامح الأمكنة. فـ”في العشرين سنة الأخيرة أصبح الجغرافيون يهتمون على نحو متزايد بالأشكال الأدبية المتنوعة كونها طرقًا للبحث عن معنى المَشَاهِد”.

وقد استعمل الجغرافيون الأدب بوصفه مصدرًا أو معطى لتبيان الأماكن والأفضية، ولم يقلل من أهمية هذا المصدر لديهم الحديث عن “ذاتية” الأدب وفنيته، بل إن هذه “الأدبية” أو “الفنية” ساهمت –إلى حد كبير– في تحديد جغرافية بشرية مفعمة بالمشاعر بخصوص الأماكن، تتعدى ما يرصده الجغرافيون ويصورونه، بفضل انشغال الروائيين بتصوير المكان وميادين الصراع والحدود ووجهات النظر والآفاق، ولذا تقدم أي رواية ألوانًا من المعرفة الجغرافية، فضلًا عن إسهامها في تعميق الأفكار بخصوص الجوانب الإنسانية في الأقاليم والأمة، وهو مجال انشغال علم الجغرافيا البشرية، والجغرافيا الثقافية.

يتجاوز الأدب وصف الأماكن الموجودة إلى اختراع أماكن في بعض الأحيان، مثلما فعل نجيب محفوظ في “ملحمة الحرافيش” ومحمد البساطي في روايته القصيرة “الخالدية”.

يُمكن للأدب إضافة أبعاد أخرى إلى الأماكن الحقيقية، علاوة على أنه يمثل جزءًا أصيلًا من تشكيل أخيلة الناس الجغرافية، عن طريق ما كتب عن المدينة والريف، وعن الطبيعة وطبائع البشر، وبذا صارت الأماكن هادفة ومتفاعلة مع البنى الاجتماعية، بعد أن منحها الأدب طرقًا للنظر إلى العالم، الذي يظهر على أنه سلسلة من مشاهد الذوق والتجربة والمعرفة.

وشكلت الرواية التاريخية إسهامًا قويًا في الدراسات التاريخية منذ أن نشأ هذا اللون من فن الرواية في مطلع القرن التاسع عشر، وإن كان هناك من يعود به إلى بعض كتابات القرن السابع عشر، وهناك من يعتبر الأعمال التي ظهرت في القرون الوسطى والمعدة للتاريخ الكلاسيكي مقدمات للرواية التاريخية، بل وإلى قرون أبعد من ذلك بكثير في ملاحم الهند والصين.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

والرواية التاريخية في حد ذاتها إحدى أدوات تصوير التاريخ ‏الأكثر تفصيلًا وصدقًا، لأنها “رواية تقرب الماضي إلينا، وتسمح لنا بأن نعيش وجوده الفعلي والحقيقي”، حتى لو لم تتقيد بمعطيات التاريخ في كثير من الأحيان. فمطالعة رواية “الحرب والسلام” لتولستوي، و”ويفرلي” لوالتر سكوت إلى جانب روايات الفرنسي ألسكندر دوماس، وروايات أدباء عرب مثل جورجي زيدان وعلي الجارم ومحمد فريد أبو حديد وسعيد العريان وجمال الغيطاني وعبد الرحمن منيف وواسيني الأعرج وأمين معلوف، تمنحنا ما هو أبعد مما سجله المؤرخون عن الحوادث والوقائع التي يرتبط أغلبها بالسلطة الحاكمة.

لقد تزامن صعود الرواية في أوروبا مع صعود “علم التاريخ”، واتكأ الاثنان على سعي الإنسان وراء جذوره، فتعاملت الرواية مع إنسان دنيوي متعدد الطبقات، ونقب التاريخ عن آثار الإنسان في ماضٍ تخلص من الأساطير التي تلتف حوله، وسار الاثنان على التوازي في ركاب التحولات الاجتماعية الكبرى بفعل الثورة العلمية والتقنية وصعود البرجوازية والنزعة القومية، وصولًا إلى مجتمع جديد يناضل في سبيل الحرية والعدالة والمساواة، دون أن يتخلص من ادعاء “الرجل الأبيض” بأنه سيد العالم.

وفي عبارة شارحة للعلاقة بين الاثنين يقول فيصل دراج: “يتوزع علم التاريخ والرواية على موضوعين مختلفين، يستنطق الأول الماضي، ويسائل الثاني الحاضر، وينتهيان معا إلى عبرة وحكاية، بيد أن استقرار الطرفين منذ القرن التاسع عشر في حقلين متغايرين لم يمنع عنهما الحوار، ولم ينكر العلاقة بين التاريخ والإبداع الأدبي”.

في حقيقة الأمر ظل يُنظَر إلى التاريخ –ولقرون طويلة– على أنه نوع من الأدب يُدرَّس للتسلية وإمتاع النفس واستلهام العبر، وذلك قبل أن يتحول إلى علم له منهج وأدوات للبحث فيه.

وقد بلغ إسهام الرواية في إجلاء التاريخ درجة متقدمة إلى حد أن يقول أحد المؤرخين العرب الثقات: “إذا كان السرد التاريخي والحكي الروائي ينبعان من نبع واحد، فإنهما يؤديان الوظيفة الاجتماعية – الثقافية نفسها أيضًا. فالرغبة في المعرفة رغبة إنسانية تكاد أن تكون رغبة غريزية لدى البشر. وإذا كان السرد التاريخي يلبي رغبة الإنسان على مستوى الفرد وعلى مستوى النوع في معرفة ما جرى في الماضي، ومعرفة أصول الأشياء والظواهر والجماعات البشرية، فإن الحكي الروائي يحقق المطالب الإنسانية في المتعة والمعرفة معًا. ولعل هذا مما يجعلنا نقول إن التاريخ يحمل في بنيته جزءًا روائيًا مهمًا وحيًّا مهما حاول المؤرخون حجبه وراء أستار الأكاديمية والتحليلات والمقارنات والهوامش وأشكال البحث العلمي وقوالبه كلها. كما أن الرواية تحمل عناصر تاريخية واضحة في بنائها”.

وفي مسار العرب الأقدمين كانت للتاريخ وظيفتين، الأولى دينية أو شرعية، لا سيما في سيرة الرسول والصحابة، والثانية للإمتاع والمؤانسة، والعبرة التي تنطوي عليها الأخبار والحكايات. أما العرب المعاصرون فقد ظهرت للتاريخ لديهم وظائف أخرى، شأنهم شأن غيرهم، أما في الأدب فقد “شاعت الروايات التاريخية في أزمنة معينة من القرن الماضي، محاولةً للبحث عن الذات القومية القوية المنتصرة، أو البحث عن دواء شافٍ للمحن التي تتعرض لها الأمة، أو لأجل التمني والحلم بالانتصار في أزمنة الانهزام، وتجاوزت ذلك في العصر الحالي إذ أصبحت تجسّد قضايا عالمية معاصرة بإسقاط ذاك الماضي على الحاضر وتفسيره”.

يتبع…

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

الجزء الثاني من المقال

الجزء الثالث من المقال

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري