قضايا وجودية - مقالاتمقالات

الثرموديناميكا ومشكلة سهم الزمان

الثرموديناميكا (الديناميكا الحرارية Thermodynamics) فرعٌ من فروع الفيزياء، يعنى ببحث العلاقة بين خواص المواد وتفاعلاتها تحت تأثير الحرارة، فضلًا عن تحول الطاقة من وجه إلى آخر. على هذا فهي امتداد لبحوث الحرارة التجريبية التي بدأها “جاليليو” سنة 1593 حين ابتكر أول ميزان حراري عرفه العلم الحديث.

حتى منتصف القرن التاسع عشر تقريبًا، كان العلماء يعملون وفق نظرية قديمة –ربما ترجع إلى “ديموقريطس”– تخلع على الحرارة شكلًا غامضًا لا وزن له من أشكال المادة، سُمي “السيال الحراري” (Caloric). على الرغم مما أحرزته هذه النظرية من نجاح في تفسير الظواهر الحرارية، لم تكن دائمًا التفسير الوحيد والمقنع لماهية الحرارة، فمنذ سنة 1620 كان الفيلسوف الإنجليزي “فرنسيس بيكون” (‏F. Bacon) قد عاد إلى وجهة النظر الأفلاطونية، إذ أعلن بجلاء أن الحرارة ما هي في جوهرها إلا مجرد حركة. وقد تابعه في ذلك من بني موطنه الفيزيائيان “روبرت بويل” (R. Boyle)، و”روبرت هوك” (R. Hooke)، فوصف الأخير الحرارة بأنها لا شيء سوى الإثارة السريعة والعنيفة لجزيئات جسم ما. وفي سنة 1798 لقي هذا الاتجاه دعمًا مؤثرًا من قبل الفيزيائي الأمريكي “بنيامين طومبسون” (Benjamin Thompson) –المعروف بالكونت رمفورد– الذي أثبت عمليًا أن الحرارة نتيجة طبيعية للحركة الاحتكاكية لجزيئات المادة.

مع تجارب “روبرت ماير” (R. Mayer) في ألمانيا، و”جيمس جول” J. Joule ‎في إنجلترا، ثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن الحرارة ليست سوى “طاقة” ناجمة عن الحركة التلقائية والعشوائية للجزيئات المادية، وأن في الإمكان تحويلها من الشكل الحراري إلى أشكال أخرى ميكانيكية وكهربائية. وبثبوت كون الحرارة شكلًا من الحركة، وبالتالي من الطاقة، أصبح من اليسير إدراك التكافؤ بين الطاقـة والشغل الميكانيكي. وتمت بذلك صياغة القانـون الأول للثرموديناميكا المعروف بقانون بقاء الطاقة (Conservation of Energy)، ومؤداه أن “الطاقة لا تفنى ولا تُستحدث، ولكنها يمكن أن تتحول من صورة إلى أخرى”.

لا تعنينا هنا الانعكاسات الفلسفية لهذا القانون، والتي تجلت فـي محاولة الفيلسوف والكيميائي الألماني “وليم أزفالد‏” (W. Ostwald) التوفـيق بين الماديـة والمثالية، بنظريته القائلة إن الطاقة هي المبدأ الأول للوجود، وإن العمليات المادية والفكرية بأكملها ما هي إلا تحولات للطاقة. إنما ذكرنا هذا القانون تمهيدًا للقانون الثاني الأكثر أهميـة لمشكلة سهم الزمان، والذي جاء ثمرة لجهود الفيزيائي الفرنسي “سادي كارنو” (S. Carnot)، ونظيره الألماني “رودلف كلاوزيوس” ‏(Clausius‎‏ ‏‎. R) في مجال الطاقة الحرارية.

بدأت إسهامات “كارنو” في مجال الثرموديناميكا بمقالٍ وحيد نشره سنة 1824‏ تحت عنوان “أفكار حول القوة الحرارية المُحرِّكة”، عالج فيه مدى إمكانية تطوير الآلات البخارية التي تقوم بعملها وفقًا لعملية دائرية: تبدأ بتسخين الماء في وعاءٍ اسطواني مُحكم مُزود بكباس، فيتحول الماء بذلك إلى بخار، وبفعل التمدد يؤدي البخار شغلًا ميكانيكيًا يتمثل في دفع الكباس إلى أعلى، ثم ينتقل البخار من خلال إحدى الفتحات إلى مكثف بارد ليعود فيه ماء كما كان، وعلى إثر ذلك ينزلق الكباس إلى موضعه الأصلي الابتدائي، لتبدأ بذلك دورة أخرى جديدة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

يطرح “كارنو” في بداية مقاله المذكور بعض التساؤلات: ماذا عن القوة المحركة للحرارة؟ هل هي قوة لا تنضب؟ وهل هناك حد للتحسينات الممكن إدخالها على المحركات البخارية؟ من خلال إجابته عن هذه التساؤلات، أوضح “كارنو” أن فقدان بعض الحرارة أمرٌ ضروري لتشغيل أي محرك بخاري، وأنه من المستحيل تحويل الحرارة المتلقاة بأكملها إلى شغل ميكانيكي: إذ لمّا كان تكثيف البخار هو في جوهره عملية تبريد، فلا بد إذن من فقدان بعض الحرارة التي لا يمكن استردادها.

هكذا اكتشف “كارنو” أن على الحرارة أن تنحدر من درجة عُليا إلى درجة دُنيا كيما تستطيع العمل، ولكنه لم يدر أنه بهذا الكشف كان يشير إلى واحدٍ من أهم قوانين الثرموديناميكا، ألا وهو القانون الثاني، الذي كان لـ”كلاوزيوس” فضل السبق إلى صياغته حين قال: “من المستحيل على آلة تعمل بصورة مستقلة –دون عونٍ من خارجها– أن تنقل الحرارة من جسمٍ مـا إلى آخـر أعلى درجة”.

في سنة 1854‏ وضع الفيزيائي الإنجليزي “وليام طومسون” (W. Thomson)، المعروف بـاللورد كلفن، هذا القانون ذاته في صورة مغايرة بعض الشيء، فقال: “من المستحيل، بالوسائل المادية غير الحية، أن نحصل على أي أثر ميكانيكي من أي جزء كان من المادة بتبريده إلى درجة حرارة أدنى من درجة أبرد الأشياء المحيطة به”. أما جوهر هذا القانون فهو التالي: “إن الحرارة لا تنتقل بصورة عفوية من مكان بارد إلى مكان حار”.

بهذا القانون تعلن الثرموديناميكا أول تضادٍ نظري وتجريبي مع الخواص الثابتة لقوانين الميكانيكا الأساسية. بل وتُرسّخ أيضًا واحدًا مـن أهـم مبادئها الممـيزة، وهــو المبدأ المـعروف بـ”لا إرتدادية” (Irreversibility) العمليات الحرارية، فلو نظرنا مثلًا إلى حركة الأجسام وفقًا لقوانين الميكانيكا التقليدية، لوجدنا أنها “معقولة” بغض النظر عن التغيير في المؤشر الزمني، أي سواء كان الزمان ينساب إلى الأمام أو إلى الوراء. وهكذا فلو أن جسمًا أُلقي على الأرض بسرعة ما، وبزاوية ما، فليس من المستحيل نظريًا ارتداد المؤشر الزمني ليعود الجسم إلى موضعه الأصلي بنفس السرعة وبنفس الزاوية، تمامًا كما لو كنا نحرك فيلمًا سينمائيًا بعكس اتجاهه الأصلي.

لا تقف هذه القابلية للارتداد عند حدود القوانين النيوتونية فحسب، لكنها تتعداها لتشمل كافة قوانين الظواهر الكهرومغناطيسية (‏Electro-magnetic‎‏) والكماتية (Quantum‏) والنسبوية (Relativistic) التي ظهرت بعد ذلك. الجسيمات الذرية مثلًا لا تكترث إطلاقًا باتجاه سهم الزمان، وليس هناك ما يمكن استنباطه من دراستها بحيث يوحي لماذا ينبغي على الزمان أن ينساب في اتجاه دون آخر. وتعرف هذه اللا مبالاة التي تتصف بها الجسيمات الذرية والقوانين الفيزيائية نحو اتجاه سهم الزمان بتماثل ارتداد الزمان (Time-reversal symmetry).

أما في الثرموديناميكا، فإن ارتداد العمليات الحرارية بالمؤشر الزمني أمرٌ مستحيل تمامًا، ولو حدث وتلامس جسمان بدرجتي حرارة مختلفتين، فإن الجسم الأكثر سخونة لا بد وأن ينقل حرارته إلى الجسم الأقل سخونة. لكن العملية العكسية، أي الانتقال الذاتي المباشر للحرارة من الجسم الأقل سخونة إلى الجسم الأكثر سخونة، فلا يمكن أن تحدث أبدًا. كذلك الحال لو تركنا قدحًا من الشاي المغلي في غرفة مغلقة، إذ لا بد وأن يستمر الاستنزاف الذاتي لحرارة القدح حتى تصل الغرفة بكافة أنحائها ومشتملاتها إلى درجة حرارة واحدة، أو إلى ما يُعرف بحالة الاتزان الحراري (Thermal equilibrium) أما استجماع هذه الحرارة من جو الغرفة وارتدادها ذاتيًا إلى القدح مرة أخرى فأمر مستحيل تمامًا.

بهذا المعنى تكون جميع العمليات الحرارية التي تحدث في الطبيعة عمليات لا ارتدادية، فلو استبدلنا الكون كله بالغرفة المغلقة، فسوف يصل الكون في يوم ما إلى ما يُسمى بحالة الموت الحراري (‎Heat death)، إذ تكون كل أشكال الطاقة قد تحولت إلى حرارة وكل حرارة قد وُزعت على الكون بالقسطاس، وهذا يعني في النهاية أنه ما من شغل سيكون مستطاعًا. وكيما يصف “كلاوزيوس” هذه الحالة ينحت كلمة “الإنتروبيا” (Entropy) مقياسًا لمستوى الطاقة في الكون، والإنتروبيا القصوى (‏Higher entropy) هي الاصطلاح الذي يقابل حالة الاتزان الحراري، إذ تُمسي كل الأشياء في الكون عند درجة حرارة واحدة.

كان من الطبيعي أن تُلقي تطورات الثرموديناميكا بظلالها على مشكلة الزمان، فمن ناحية، بدأ الشك يتطرق إلى البناء الزماني المطلق الذي تصوره نيوتن خطًا مستقيمًا متجانسًا، ينساب منذ الأزل وإلى الأبد بسرعة متساوية، فلو كان هذا التصور صحيحًا، فمعنى هذا استقلال التدفق الزمني عن مجرى حوادث العالم دون بداية أو نهاية، ولكن ها هي الثرموديناميكا تنبئنا بأن الكون مآله إلى فناء، وتؤكد على الترابط الوثيق بين الآنات الزمانية المتدفقة، وبين تصاعد الإنتروبيا الكونية التي تحملنا معها إلى نقطة اللا عودة. هكذا عادت فكرة “ليبنتز” عن الزمان النسبي الإدراكي لتطل برأسها من جديد، ولتمهد بذلك الطريق لظهور النسبية الفيزيائية لـ”آينشتين” مع بداية القرن العشرين.

من ناحية أخرى، لاحت في الأفق بوادر اعتراضات فلسفية قوية على فكرة سريان الزمان ذاتها، إذ لو كان الزمان متدفقًا، فمعنى هذا أنه يتحرك، ولو كان متحركًا، فلا بد وأن تُقاس سرعته في ضوء نوعٍ من الزمان أكثر أساسية، أو أن يكون البديل أن ينساب الزمان بالنسبة لنفسه وهذا باطل منطقيًا. للخروج من هذه الأزمة حاول الفيزيائيون محاصرة المشكلة بنبذهم لفكرة انسياب الزمان برمتها، ‏وبإحلالهم لفكرة أن الزمان أو الصيرورات الزمانية لا تماثلية (Asymmetric)، وهو ما دفع بالمشكلة إلى منعطفٍ جديد، ألا وهو البحث في البنية التوبولوجية لمتصل الزمان.

لعلنا نعرف أن المكان متماثل في كافة الاتجاهات، أو لنقل بلغة الفيزياء أنه مُوحَّد الخواص (Isotropic)، فماذا إذن عن الزمان؟ هل هو متماثل كالمكان؟ أم أنه متباين الخواص (Anisotropic) وفقًا لعلاقةٍ لا تماثلية بين آناته؟ بعبارة أخرى هل للزمان البنية التوبولوجية التي للخط المستقيم؟ وإذا كان كذلك فهل لهذا الخط اتجاهٌ وحيد تفرضه علاقة ترتيب لا تماثلية بين نقاطه، بحيث يبطل القول بارتداد الحوادث الزمانية في عكس هذا الاتجاه؟

الحق أننا لو نظرنا إلى ظواهر الكون الكبير، لوجدنا سهم الزمان يشير إلى اتجاه واحد فقط نحو المستقبل. تؤكد ذلك عمليات التطور البيئي والبيولوجي التي تبدو بلا رجعة. وتؤكده أيضًا طبيعة العمليات الحرارية اللا ارتدادية التي أقرها القانون الثاني للثرموديناميكا. أما لو نظرنا إلى قوانين الفيزياء الميكانيكية –بما فيها قوانين النسبية والكمَّ– فلن نستطيع أن نجد دليلًا على طبيعة الزمان ذات الاتجاه الواحد. فأين الحقيقة إذن؟

لا شك أننا سنُواجَه بعالمٍ غريب لو أُتيح لنا مشاهدة الزمان منسابًا إلى الوراء، فسوف ينكص الطاعنون في السن متجهين صوب الطفولة، والمباني المنهارة سوف ترتفع من التراب لتستأنف حالاتها الأصلية القديمة. وسوف تتلاقى الأمواج على حبات الحصى التي سوف تقفز في أيدي الناس الذين قذفوا بها ذات يوم إلى الماء، وهلم جرا، وستكون الحياة أشبه بشريط سينمائي يدور إلى الوراء.

لا توجد أية شواهد لتأييد إمكانية هذا الحدث، كما لا يوجد أي احتمال على أن العمليات الزمانية يمكن أن ترتد بعكس اتجاهها. لكن هناك إمكانية أخرى، هي أن يكون الزمان مغلقًا توبولوجيًا، أي أن تكون البنية التوبولوجية له هي تلك التي للدائرة، ومعنى هذا أن يعود الكون بعد إتمام دورته الزمانية ليبدأ دورة أخرى جديدة هي تكرار لدورته القديمة. ورغم وجاهة هذه الفكرة، إلا أنه لا يوجد أيضًا أي دليل فيزيائي على صحتها، وإنما هو مجرد فرض طُرح قديمًا، ويُطرح الآن، وربما يعود إليه الإنسان يومًا ما في المستقبل طالما ظل يفكر في طبيعة الزمان.

مقالات ذات صلة:

تجربة الكون المعكوس

الانفجار الكبير وسر الخلق هل الكون نشأ بالصدفة؟

لغز الزمن، هل سنسافر يوما عبر التاريخ؟

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*********

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية