المبرمج الشاعر العناق الأبدي بين الأدب والعلم .. الجزء الثالث
يتحدث المختصون في العلوم البحتة عن فضل الجمال والخيال عليهم. ففي محاضرة ألقاها سنة 1918 قال ألبرت آينشتاين، الذي كان يشرد في مراهقته متخيلًا أنه راكب شعاع الضوء وسابح في الفضاء، إن “لي من شخصية الفنان ما يكفي لأنسج من خيالي ما أريد. هناك في الإبداع العلمي عنصرًا لا يمكن القبض عليه. إنها حالة شعورية في الباحث قريبة من حالة العاشق، غير صادرة عن قرار عقلاني أو برنامج معين، بل عن حاجة شخصية”، وأزيد من هذا نجده يعترف بفضل الأدب الروائي عليه، ويقول: “لو لم أقرأ قصة الجريمة والعقاب لدوستويفسكي، ربما لم أكن قد توصلت إلى النظرية النسبية”.
كان نيوتن يتحدث عن الإشراقات التي تأتيه فجأة، بعد أن يظل مشغولًا بمسألة ما زمنًا طويلًا، دون أن يصل إلى نتيجة، وفجأة ينجلي له كل شيء. وتحدث داروين في نهاية كتابه أصل الأنواع عن الجمال والجلال الذي أتاه من عمق التفكير في المسألة التي شغلته.
رغم مثابرته لم يتوصل عالم الذرة نيلز بوهر في أبحاثه إلا لنتائج متناقضة تبعث على اليأس، لكنه حين قرأ، من باب الترويح عن النفس، كتاب ألبير جليرز وجان ميتزنجر (Du Cubisme) أو التكعيبية في الرسم أشرقت مخيلته بنظرية المتمم في فيزياء الكم، وهي قفزة كبرى في تاريخ العلم. في حين كان عالم البيوكيمياء روبرت روت لا ينتظر الترفيه عن نفسه باللعب والتوصل إلى شيء مصادفة، بل كان يؤمن بأن اللعب والتجريد وبناء النماذج وتمييز الأشكال والأنماط هي نفسها عند الصغار، وعند كبار العلماء والفنانين.
لهذا يستعين علماء الفيزياء والكيمياء في اجتماعاتهم الحاسمة، أو تلك التي تنخرط في عصف ذهني بشأن مسألة معينة، بشعراء وروائيين وفلاسفة وعلماء اجتماع ليشاركوهم التفكير وإطلاق الخيال، والكشف عن التأثير الاجتماعي والأخلاقي لتجاربهم العلمية.
العلاقة بين العلوم والفنون
في الاتجاه الآخر، لم يكن ليوناردو دافينشي رسامًا عظيمًا فقط، بل كانت له إسهاماته العلمية لا سيما في مجال ميكانيكا السوائل مثلًا وفي الطيران وغيرهما. وكان جاليليو متدربًا في الرسم الرؤيوي (Visualization) وحتى سن الخامسة والعشرين كان يُدرِّس الرسم الهندسي إلى تلامذة فن العمارة، وكان ولعه بالتحديد هو نفسه فن الظلمة والضوء وتوزيعهما في اللوحة. وقرأ الفنان الفرنسي مارسيل دوشان بعض الأعمال عن النظرية النسبية، وتأثر بها، وهذا بان جليًا في لوحته “العارية التي تهبط الدرج”.
يقول عالم الفيزياء الأمريكي جيمس تريفيل “يبدو، ولأسباب لم تتضح لي تمامًا، أن ثمة اعتقادًا تاريخيًا بضرورة وجود صراع دائم بين العلم والفنون. وإذا تأملنا هذا الرأي فسنكتشف أنه أمر يصعب فهمه، إذ نعرف في النهاية أن المبحثين كليهما زاخر بمبدعين على مستوى رفيع عاكفين على أداء مهام شبه مستحيلة، وهي محاولة استكناه معنى الكون. وهنا قد يرى المرء أن الأولى أن يتحقق نوع من التعاطف المتبادل بين الاثنين على أقل تقدير”.
يرى تريفيل أن المفاهيم المألوفة المعتدلة عن الجمال كان لها دائمًا دور مهم في العلوم، وأن توافر فهم للعلم يمكن أن يؤدي عمليًا إلى تحسين التقييم الجمالي لدى الشخص العادي عن سحر الطبيعة وأعمال الفنانيين، كأن يعلم الناظر إلى قاع بحر مليء معلوماتٍ عن الشعب المرجانية وأصناف الأسماك البديعة، ويقول تريفيل: “إن علم الجمال لا يمثل فقط جزءًا مهمًا من العلم، بل إن نمط المعارف التي نسميها المعارف الأولية العلمية يمكن أن يمثل هو أيضًا جانبًا مهمًا من الخبرة الجمالية ذاتها”.
ينبهنا آرثر ميلر، أستاذ تاريخ العلوم والفلسفة في جامعة لندن، إلى أمر غاية في العمق والأهمية في هذا المضمار، وهو أن آينشتاين وبابلو بيكاسو كانا في وقت واحد يعالجان خاصية المكان أو الفضاء، وكيفية التطلع إليه بطرق مختلفة من المشاهدين. وبذا اكتشف آينشتاين النسبية، وتوصل بيكاسو إلى التكعيبية. أما الماركسيون فينبهوننا إلى أن الفن والعلم جزء من البناء الفوقي الذي يخدم البناء التحتي القائم على العلاقات المادية.
الخيال في العمل الأدبي
ينصح دين سيمونتون، أستاذ علم النفس بجامعة كاليفورنيا الأمريكية، بترك مساحة للخيال فيقول: “يجب أن تعرف مادتك، لكن لا يجب أن تعرفها جيدًا. يجب أن تكون لك خبرة، لكن تجنب الاختصاص الزائد. كن مستعدًا لخرق القواعد العامة والحكمة السائدة. كن مستعدًا لنعتك بالجنون. كل شيء جديد يبدو جنونًا”.
يطلب إدوارد سعيد من الناقد أن يمارس عمله خارج إطار الإجماع المتحكم في ميدان النقد، الذي يتوزع على أشكال أربعة هي النقد العملي الذي نجده في مراجعة الكتب، والتاريخ الأدبي الأكاديمي، والتقويم والتأويل من زاوية أدبية، والنظرية الأدبية، ويستعين في البرهنة على وجهة نظره تلك بما جرى لإرخ فورباخ حين أقدم على تأليف كتابه “المحاكاة”، فلم تمكنه الظروف التي أحاطت به من الحصول على ما يريد من مراجع ومصادر لتأليف كتابه، وهو موقف عبر هو عنه قائلا:
“وقد أذكر أيضًا أن كتابة الكتاب كانت في أثناء الحرب، وفي استانبول، إذ إن المكتبات غير مؤهلة لإجراء الدراسات الأوروبية. وبما أن الاتصالات الدولية كانت معوقة كان لزامًا عليَّ أن أستغني عن الدوريات كلها تقريبًا، وعن أحدث الاستقصاءات كلها تقريبًا أيضًا، كما كان لزامًا عليَّ في بعض الحالات الاستغناء عن طباعة نصوص طباعة موثوقة. ونظرًا لذلك فإن من الممكن وحتى من المحتمل أن أكون قد تجاهلت بعض الأشياء التي كان يتوجب عليَّ أن أمعن النظر فيها، وأن أكون قد أكدت أحيانًا على شيء دحضه أو عدله البحث الحديث، لكن من الناحية الأخرى فإن من الممكن جدًا أن يكون الكتاب مدينًا بوجوده لهذا النقص نفسه المتمثل بغياب مكتبة غنية ومتخصصة. فلو أتيح لي أن أتعرف على ذلك العمل الذي تم إنجازه موضوعات عديدة جدًا، لما توصلت على الأرجح إلى اتخاذ قرار بالكتابة”.
يتبع…
مقالات ذات صلة:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا