مقالاتقضايا وجودية - مقالات

الحياة الإنسانية والإنسان – الجزء الرابع

بين الخير والنافع

هناك فرق واضح بين الخير وبين النافع؛ فالخير هو ذلك الشيء المطلوب بذاته فهو كمال يطلبه الإنسان لنفسه لا للحصول على شيء آخر، أما النافع فهو ذلك الشيء الحسن لترتب الآثار الحسنة عليه، فالنافع الحسن مقدمة للخير وليس الخير نفسه.

ولما كان حديثنا عن الحياة الإنسانية والإنسان، نجد أنه من الضروري تحديد ما الخير بالنسبة للإنسان وما النافع، وهل الرؤية السليمة التي يترتب عليها كل سلوك الإنسان بالتالي مصيره كما أشرنا في المقال السابق، هل تلك الرؤية من الخير أم من النافع؟!

فهل الرؤية السليمة والعمل وفقها هدف ومطلب خير بعض النظر عمّا يمر به الإنسان نتيجة تلك الرؤية السليمة؟! أم أن الخير هو شيء آخر ؟

ولكي نستطيع الإجابة على هذا التساؤل يجب أن نجيب أولا على سؤال آخر يطرح نفسه ليكون مقدمة للإجابة على السؤال السابق وهو ما هو الكمال الإنساني أصلا؟ لو عرفنا ماذا يعني الكمال؛ سَهل علينا أن نعرف؛ هل الرؤية السليمة للإنسان هي خير مطلوب لذاته؟ أم أن هناك خير أخير يجب أن يعرفه الإنسان؛ ليحاول الوصول إليه.

إطروحات مختلفة لتعريف الكمال الإنساني

لا شك أن تشخيص هذا الكمال الإنساني يُعد من أصعب وأدق الأمور، حيث يسهل علينا أن نُشخص بسهوله كمال أغلب الموجودات حولنا بخلاف الإنسان نفسه؛ فعلى سبيل المثال يمكن بسهولة تشخيص كمال ثمرة الفاكهة بأن لونها جيد ورائحتها عطرة وطعمها لذيذ وشكلها متناسق، وعلى هذا يمكن تشخيص كمال أغلب الموجودات من أزهار وطيور ……إلخ.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لكن تشخيص الكمال الإنساني ليس بهذه السهولة؛ لكن يمكن أن نستعرض النظريات التي تناولت تلك المسألة ونقيمها تقييم منطقي واقعي؛ لعلنا ندرك سويا ما هو الكمال الإنساني وأي النظريات صحيحة في هذا المجال .

الإنسان القادر

ومما طرح في هذا المجال أن الإنسان الكامل هو الإنسان ( القادر ) الذي يستطيع أن يستفيد من الطبيعة والبيئة التي يعيش فيها؛ فكل من يمتلك تلك الأمور ويتنعم بها هو الإنسان الكامل.

ومن الواضح أن هذا التوصيف خطأ؛ فلو وصفنا علي سبيل المثال الحصان الكامل سوف نصف صفات الكمال في هذا الحصان ووضعه الخاص به ولن نعتبر أن الحصان الكامل هو من يأكل علف أكثر من باقي الأحصنة ، كذلك ليست ثمرة الفاكهة الكاملة هو التي استفادت من الطبيعة أكثر من غيرها، كذلك بناء على التعريف السابق أن الإنسان الأقل استفادة وقدرة هو بالنتيجة أقل كمال ، من يقدر ويملك هو الكامل ومن لم يقدر ويملك هو الناقص،

والواقع يثبت لنا بما لا يدع مجالًا للشك بطلان هذا التعريف للكمال الإنساني؛ بل ويظهر لنا أفضلية بعض الأفراد ممن لا يملكون الكثير وغير مستفيدين بدرجة كبيرة من الطبيعة والبيئة على غيرهم ممن يقدر ويملك، فالأنبياء والرسل لم يكونوا من أصحاب الأموال الطائلة ولم يكونوا من أنصار الطرف والإفراط في الشهوات .

وهذا القول في حقيقته يجعل الإنسان أخس من الحيوان ، حيث أننا لا نقيس أي حيوان بمقياس استفادته من الطبيعة، وهذا لا يعني أن الاستفادة من الطبيعة وخيراتها أمر سيء بل هو مطلوب وفق الحاجة الإنسانية ولكن لا يمكن أن نعتبر أن من يستفيد أكثر ويتنعم أكثر هو الإنسان الكامل .

الإنسان الأقوى

كذلك نجد نظرية التكامل ( الدارويني ) فالإنسان الكامل هو الأقوى والأقدر على حفظ وجوده ونفي منافسة في ميدان التنازع على البقاء، هذا ما ركزت عليه الدعاية الأمريكية باعتباره اكتشاف علمي عظيم ، لتبرر سياسة الاستعمار والبلطجة التي تمارسها على العالم، متخذة من العالم غابة البقاء فيها والإنسان الأكمل من وجهة نظر دارون هو الإنسان الأقوى، أما الإنسان الأضعف؛ فهو إنسان ناقص بل يستحق الفناء والنفي!

من الناحية الروحية

وتعد أغلب الأطروحات المادية دائرة في نفس الفلك تقريبا من المتع المادية والسيطرة المادية والتحكم، لكن على جهة أخري توجد نظريات حول الكمال الإنساني من الناحية الروحية المعنوية.

حيث يرى أصحاب هذا الفكر أن الإنسان الكامل هو الإنسان الذي يتخطى منازل الوصول للحقيقة منزل بعد منزل ومرحلة بعد الأخرى من خلال السلوك والرياضات الروحية ، ليصل لعين الحقيقة وتنكشف له حقائق العالم والوجود من حوله ، وبذلك يصل للكمال الإنساني؛ فالإنسان الذي لا يصل للحقيقة من وجهة نظرهم ليس بكامل بل ناقص والإنسان الذي تنكشف له الحقيقة هو الإنسان الكامل فقط.

إطروحات آخرى

كذلك من النظريات المطروحة من يجعل الكمال الإنساني في المحبة ، فالإنسان الكامل هو من كانت محبته للآخرين أكثر، وكلما ازدادت محبة الإنسان تكون أخلاقه ممدوحة؛ فهذا غاندي في كتابه ” هذا مذهبي ” يؤكد على معنى الحب كأروع ما يكون .

وهناك من يرى الكمال الإنساني في الجمال الحسن، وليس المقصود الجمال الحسن الجسمي إنما الجمال الروحي والفن والأعمال الجميلة؛ فالأخلاق جميلة والعلم حسن، وعليه فالكمال الإنساني يتلخص في الجمال.

وأخيرًا وليس بآخر؛ نجد الحكماء والفلاسفة يحددون الكمال الإنساني بأنه في معرفة العالم معرفة كلية واقعية صحيحة يدعمها الدليل والبرهان المنطقي؛ فالإنسان الكامل هو الإنسان الذي تلقى الحكمة، وعرف وحقق العدالة.

الحكمة في المعرفة، والعدالة في سيطرة العقل على الشهوات بما ينفع الإنسان من خلال تبني الأخلاق الحسنة؛ فالإنسان الكامل هو الإنسان الحكيم العادل المُتخلق بالأخلاق الحسنة.

اقرأ أيضا:

الجزء الأول من المقال

الجزء الثاني من المقال

الجزء الثالث من المقال