كان حديثنا في المقال السابق حول الكمال الإنساني وسبل الوصول إليه، عرضنا بعض النظريات التي تتناول هذا المفهوم ونحاول في هذا المقال عمل تصور حول هذا الكمال الإنساني لنرسم ملاحم الإنسان الواعي والمدرك لنفسه واقعيا، والمدرك للواقع والحقائق من حوله.
من الطبيعي عندما نبحث عن تصور حول الكمال الإنساني ، أن يكون هذا التصور محدد السبيل ويحرك الإرادة الإنسانية نحو هذا السبيل ولابد في نفس الوقت أن يكون معلوم الهدف ومحدد طرق الوصول إليه، فإذا كنا نبحث عن الموضوعية للوصول للحقائق من حولنا سواء عن أنفسنا أو الواقع فلا يجب أن نرضى إلا بالوضوح والتحديد المسبق حتى يستطيع الإنسان تحمل العقبات التي قد تظهر أثناء المسير بدرجة من اليقين والثبات.
من منا لا يرد أن يصل لهذا الإدراك الحقيقي عن نفسه والوجود؟! من منا لا يريد الكمال؟! فإذا لم يسع الإنسان إلى مثل هذا الهدف، ولم يشتاق الوصول؛ فما هو إلا مجرد جسد خاوي لا يختلف عن الحيوان الذي يحصر هدفه في المأكل والمأوى، فالإنسانية الحقيقية إنما تتجسد في المعاني والقيم العليا.
لو كان هدفنا حقا الوصول لتلك القيم التي تجعل منا بشر على درجة كبيرة من الكمال الإنساني ، وجب علينا أن نعرف ما هي مميزات وملامح هذا الكمال الإنساني وما هي الصفات الروحية والمعنوية والمميزات التي يجب أن يتصف بها هكذا إنسان، فإن لم نعرف تلك الصفات والملامح؛ فمن الطبيعي أننا لن نستطيع الوصول إليها. فأول خطوة في الطريق هي المعرفة السليمة.
الفارق بين الكمال والتمام
هناك فرق بين الكمال والتمام؛ فالتمام يطلق على الدرجات التي يتطلبها وجود جميع الأشياء اللازمة لوجود شيء ما ، فإذا لم يكن التمام كان النقص ، فيمكن أن نقول نصفه موجود أو ثلثه ، مثل البناء يمكن أن يكون تام أو ناقص بعض الأجزاء.
أما الكمال فهو درجات يصل لها الشيء بعد أن أصبح تامًا، درجة بعد أخرى، فإذا لم يكن هذا الكمال فالشيء موجود بتمامه، لكن إذا أضيف له الكمال ارتفع منزلة أكبر من التمام.
إن الإنسان الكامل يمكن تصوره وفق هذا الفرق بين التمام والكامل ، فالإنسان الكامل معناه وجود إنسان تام في مقابل إنسان لم يزل غير تام ، فالإنسان يكون تام ويكون قابلا لكي يكون بدرجة من الكمال خطوة تلو الأخرى بقدر الطاقة .
إن النقص الجسمي لا يعتبر نقصا في فضيلة الإنسان، وهذا دليل على أن في الإنسان شيئين له شخصيتان جسمية وروحية (جسم ونفس ) وأحوال النفس غير أحوال الجسم بالطبع، وهنا ليس مقام الحديث عن الأدلة المنطقية على وجود هذا الفارق الإنساني ؛ فلهذا بحث آخر في المقال القادم حول حقيقة الإنسان.
صفات الإنسان الكامل
لا ينكر عاقل أن في النفوس والطباع الإنسانية نفوس هي أحط من الطبيعة الحيوانية لبعض الحيوانات المفترسة والقذرة، فالبعض يتسم من حيث الصفات بخصائص الحيوان المفترس أو البهائم ، فالإنسان المعيوب روحيا هو في الحقيقة قد يصل إلى تلك الدرجة الحيوانية،
وهنا نسأل هل أهداف بعضنا ورغباته هل هي أهداف ورغبات إنسانية أم هي ظاهريا إنسانية وحقيقتها حيوانية؟ هل نعيش نمط حياة إنسان قائم على القيم والمثل العليا أم حياة تشبه الحياة الحيوانية؟
فكمال الإنسان يكمن في توازنه؛ أي أنه بالنظر لوجود كل هذه الاستعدادات الموجودة فيه والمسخرة له، وبلحاظ تكوينه المشترك ما بين المادي والمعنوي، ينبغي ألا يتمسك بواحدة منها ويهمل سائر قابلياته ويعطلها عن العمل؛ بل يجب أن يعتني بها جميعا ، فحقيقة العدل ترجع إلى إعطاء كل ذي حق حقه.
فما هي صفات الإنسان الكامل؟ أهو العابد المحض، أو الزاهد المحض، أو المجاهد المحض، أو الحر المحض، أو العاشق المحض ، أو العاقل المحض؟ من منهم يكون الإنسان الكامل؟ الحقيقة ليس أي من هؤلاء الإنسان الكامل .
فالإنسان الكامل هو ذاك الذي تربت فيه كل هذه القيم ، ونمت إلى أعلى الحدود الممكنة في انسجام وتناسب، فالإنسان الكامل هو من وصل للبطولة في كل القيم. إننا بالطبع لا نستطيع أن نكون أبطالا في جميع القيم؛ لكن علينا السعي قدر الإمكان، وأن نلتزم جميع القيم في تناسب بدون طغيان قيمة على أخرى، وإذا لم نبلغ مرحلة الإنسان الكامل ، فلا أقل من أن نبلغ مرحلة الإنسان المتعادل المعتدل.