الحقيقة في عصر الإعلام
يصعب إدارك الحقائق في عالمنا اليوم، فبالرغم من تطور وسائل الاتصال الحديثة والتداخل الكبير ورغم كثرة المعلومات بأنواعها المسموعة والمقروءة، والتي اعتقد بعض العلماء بأن الوسائل التكنولوجية الحديثة ستحل مشاكل الإنسان من خلال التطور العلمي باعتبار أن المشكلة في الأساس معرفية وقد عملت التكنولوجيا إلى التقريب بين البشر، وبل إلغاء الفوارق والاختلاف الثقافي تحت ظل العولمة وأصبح للمرء القدرة على إدراك الحقائق من خلال وسائل الإعلام إلا أن المشكلة في الحقيقة تكمن في تلك الوسائل بالأساس!
فالوسائل الإعلامية الحديثة في الواقع ليست هي الأساس ليصل الإنسان إلى أحكام سليمة لتحليل ما يحدث حوله بل هي بمثابة إيصال المعلومات فقط من أجل مزيد من التصور والإدراك، فهي مدخلات ولكن دون الحكم، بل أصبح مربط الفرس هنا هي عملية الحكم والتصديق والتحليل، بل إن الوسائل الحديثة لم تحل المشكلة بل من الممكن القول بأنها قد عقدت المشكلة وأصبحت الحقيقة صعبة المنال فأغرقت الإنسان بكم هائل من الأحداث والمواقف الجزئية التفصيلية ، فإذا أردنا أن ننطلق في اقترابنا من الواقع وجدنا زوايا مختلفة للحقيقة بل ما نراه موضع إدانة لأحد الأطراف ربما يراه الآخر بمنظر مخالف تماما موضع تبرئة.
لذلك علينا في الأساس أن نعمل على الاقتراب المنطقي للحقائق لأن وسائل الإعلام في الأساس عند وضع السياسة الإعلامية تعتمد على الآتي:
أولا: تشكيل انتباه الجمهور:
وذلك من خلال توجيه انتباهه وإثارته باتجاه معين للواقع فيدركه من خلال ما يسمى بعملية التأطير في صناعة الإعلام أي وضعها في سياق معين وذلك حتى تكون الحقيقة في سياق الذي أراده الإعلام ، فيدركها الجمهور وفقا لما يريدونه أو يرونه، ووفقا لزاوية معينة في التناول.
لذلك فإن الأزمة غالبا في الشعوب المضلّلة؛ فعندما تنظر إلى قضية ترى فيها أن المظلومية واضحة تجد أن الآخر لا يراها كذلك، بل على العكس! وقد بات ذلك جليا في القضية الفلسطنية أو اليمينية لمن يعقل؛ فترى الإعلام وقد وضع الواقع في إطار وتناول معين بل لم يكتفِ بذلك بل وضع ترتيبًا للمواضيع لها في التغطية وأفرد لها المساحة وسلط الضوء على بعد معين في القضية، لكن وفقا لما يتناسب مع مصالح البعض فيسلط الضوء على قضية ما ويتجاهل نفس القضية في وقت آخر مثل القضية السورية أو محاربة الإرهاب، فيما يسمى بوضع الأجندة الإعلامية و ذلك من خلال ترتيب الـأحداث كما يحلو لصانع السياسة الإعلامية ، فمن خلالها يشكل الوعي ويلفت الأنظار لقضية ما ويهمل الأخرى، ويسلط الضوء تارة على ردات فعل عنيفة غير عاقلة أحيانا من الطرف الآخر نتيجة للمظلومية الدائمة منه على ذاك الطرف.
وبالتالي يهيء ويعد الجمهور للحكم على الواقع وذلك بعد تسليط الضوء على بُعد معين في القضية وإخفاء الأبعاد الأخرى وبالتالي يستخدم كل وسائل الإقناع المختلفة تحت التاثير العاطفي والعصبية أو غيرها، والإشكالية أننا لا ندرك الأمر وإذا أدركناه لا نشك أننا قد نقع فريسة لذلك.
لذا يجب علينا الشك وتنمية الحس المنطقي؛ فالحداثة والتقدم صعَّبت الأمر ولم تسهله والحل في رفع الوعي؛ فالحقائق لا تدرك بتتبع أجزائها بل بالوصول أولا إلى المبادئ وإلى الحق والعدل والخير ثم التوجه للواقع، أما الحكم من خلال بعض الوقائع على من هو حق أو باطل فهو قد لا يكون دقيقا ويحدث اللبس فكثير ممن يسيرون لطرق الحق يخطئون لضعف نفوسهم أو لسوء إدارة للأمر أو لردود غير عاقلة من البعض، كذلك ما يكون الباطل في باطله ما يخلط ما بين الحق والباطل فيزين باطله بالحق، كما استخدمت بريطانيا قديما الحرب على القرصنة في احتلال الكثير من الدول أو كما قامت أمريكا تحت زريعة الإرهاب بالتدخل في الدول، فلندرك الحقائق من منظور عقلي من خلال تحليل المنظومات الفكرية والفلسفية لأصحابها بالأساس، لا بالانطلاق من السلوك لأن السلوك هو حمّال أوجه فقد يساء فهمه لقصور لدي في بعض المعلومات كما أن الباطل ليس باطلا بالمطلق أو شرًّا بالمطلق به فيه من النزعات الإنسانية التي تراوده فيراودها عن نفسها لمصاحه أمعائه وشهواته.
لذلك علينا أن نكون معياريين بوضع معيار الحق والباطل ثم الانطلاق إلى الواقع لتحليله فالمبدأ والمعيار السابق المدعوم بالحجج هو بمثابة البوصلة التي لا تجعل المرء تتقاذفه الأمواج فيجد نفسه في الموضع اللا صحيح لا سمح الله فيكون ناصرا للباطل أو خاذلا للحق.
اقرأ أيضاً:
العقل الجمعي .. التجرد وطريق الخروج