علم نفس وأخلاق - مقالاتمقالات

ليس الحسد السبب

في أثناء طفولتي سمعت عن عديد من المصريين في قريتنا الذين سافروا إلى بلاد الخليج العربي من أجل العمل، وعادوا بعد بضعة سنوات معهم المال، لكن أصيبوا بالأمراض؛ السكر، الضغط، الكبد!

كان التفسير المنتشر في قريتنا أن السبب الحسد وعيون الناس! أو أنه كويس بس يصطنع المرض، علشان الناس متحسدوش!

منذ أكثر من عشرين سنة، حين وصلت إلى الولايات المتحدة الأمريكية، كان من البديهيات والأسئلة التي نجيب عنها في أي امتحان أسئلة عن الأمراض التي تصيب الأمريكيين من أصول إفريقية أو مكسيكية، (ذوي البشرة السمراء)، بنسبة أكبر أو أشد أو مضاعفات أكثر، من المماثلين لهم من الأمريكيين أصحاب البشرة البيضاء.

كان التفسير الرسمي وقتها أن هؤلاء أصحاب البشرة السمراء لديهم عوامل وراثية تجعلهم أكثر عرضة للمرض والمضاعفات، أو طريقة حياتهم أو بسبب الفقر! لكن حين قارنوا هؤلاء الناس أصحاب البشرة السمراء بنفس الناس من ذوي البشرة السمراء في بلادهم الأصلية، لا يزالون يعيشون في إفريقيا أو المكسيك، وجدت الأبحاث أن حالتهم أحسن كثيرًا، وصحتهم أفضل، ولا يعانون من نفس الأمراض أو نسبة المضاعفات!

هنا ظهر تفسير آخر؛ أن الأطباء عنصريون يهتمون بالمريض الأبيض ويهملون المريض الأسود!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لكن حتى هذا اتضح أنه غير صحيح حين اهتموا بكلا الجانبين، خاصة بعد تزايد عدد الأطباء من ذوي البشرة السمراء، سواء من أصول إفريقية أو مكسيكية أو عربية في الولايات المتحدة الأمريكية.

بالتدريج بدأت أفهم السبب، أثبتت الأبحاث أن العنصرية تتسبب في ضغط نفسي مزمن، مما يؤثر بالتدريج على الصحة والمناعة، وترفع نسبة الإصابة بالأمراض، بغض الطرف عن مستواك الاجتماعي أو المالي أو الاقتصادي.

اتضح أن الشخص الذي يتعرض كل يوم إلى التهديد والخوف بسبب النظر إليه أنه أقلية، يشعر دائمًا بعدم الأمان في الشارع، في البيت، في العمل.

دائمًا كما يقولون، على رأسه “بطحة”! يفسر نظرات الناس وتصرفاتهم أنها عدائية ومصدر تهديد أو خوف! حتى لو يشغل منصبًا ممتازًا أو يحصل على دخل كبير! دائمًا حذر وخائف من أن يتعرض للتنمر أو الاتهام أو الأذى من أي اتجاه!

هذا يضع الشخص في ضغط نفسي مستمر، حتى لو من دون سبب منطقي واضح أمامه، لكنه الخوف المزمن، الشعور المزمن بأنك مواطن من الدرجة الثانية!

هذا بالتدريج يؤثر على القلب والتنفس وضغط الدم والسكر والمناعة وقدرة بناء الأنسجة، وكل شيء!

اليوم ظهرت أبحاث كثيرة تثبت أن العنصرية تتسبب في الأمراض والمضاعفات الصحية، بل والموت، وهذا يفسر لنا كثيرًا مما نراه حولنا.

نفهم لماذا يعيش الفلسطيني في عذاب يومي، حتى لو لم يُقصَف بالطائرات، بسبب العنصرية اليومية من إسرا ئيل، حتى لو معه جواز سفر وهوية إسرا ئيلية، أو من يسمى “عرب 48”.

هذا يفسر لنا زيادة الأمراض في الأقليات الذين يعيشون في الغرب، هذا يفسر لنا كثيرًا من الأمراض التي تصيب الشعوب التي تعيش في كبت وخوف وذل، حتى لو توفر لها الطعام والشراب!

هذا يفسر لي أمراض الرجال الذين سافروا من قريتنا إلى بلاد الخليج العربي في أثناء طفولتي، اتضح أن الموضوع ليس أنهم محسودون!

طبعًا كلامي قد لا يعجب البعض ممن يعيش مواطنًا من الدرجة الثانية، لكن يصطنع السعادة ويعيش في الإنكار، ويضايقه أن يسمع الحقيقة المؤلمة!

مقالات ذات صلة

هل للعين قوة تدميرية؟

الخوف والارتجاف

عنصرية علمية

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. خالد عماره

الاستاذ الدكتور خالد عماره طبيب جراحة العظام واستاذ جراحة العظام بكلية الطب جامعة عين شمس