مقالاتمنطق ومعرفة - مقالات

الحرية الفكرية، هل هي حق؟ هل هي صحيحة؟ وهل لها حدود؟

نظرة على الحرية في الاعتقاد الفكري

هناك ضرورة في أكثر من مجال في حياتنا لمناقشة وإعادة فتح ملف الحرية الفكرية. ولا ينبغي أن يكون الهدف تحت أي ظرف من هذا النقاش هو الوصول لنقطة كبح جماح الحرية الفكرية وفرض نطاق فكري معين على الذهن البشري. وذلك لأنه وعلى الرغم من التفاضل بين النطاقات الفكرية المختلفة في الكم والكيف، حيث إن لكل نطاق فكري نختاره نجد تباينا في المميزات والعيوب التي لو تطابقت بين أي عدد من النطاقات ما أمكن التمييز بينها عند الاختيار ظاهريا. فعلى الرغم من هذا التمايز والذي يستلزم نظريا وجود النطاق الفكري الأسمى ذي القدر الأعظم في الفوائد والقدر الأدنى من العيوب. إلا أنه عمليا لا يمكن إجبار العقل البشري -مهما احتدم الصراع واشتد- على اعتناق أو اختيار نظام فكري معين دون الآخر. فبالتالي عند مناقشة هذا الملف (الحرية الفكرية) فلا تأخذنا الأهواء والأحلام بأي حال نحو طرف الحجر الفكري على العقل البشري وذلك لاستحالته العملية. أما الغرض الأكثر قيمة لهذا التحليل فهو وضع الضوابط على القدر الممكن نظريا للحرية الفكرية. فمعرفة حدود هذه الحرية ضروري كي يستطيع الإنسان التعامل مع هذا المتغير واقعيا لا وفق الخيال.

الحرية الفكرية المطلقة: الثنائية والتطرف والصراع

ونجد في هذا التحليل فائدة في هذا الزمن مع تعالي وسيادة التيار المنادي بإطلاق الحرية الفكرية وهو الطرف المقابل للحكر الفكري الكامل. فوفق هذه الرؤية فإن الإنسان له كامل الحق والحرية في اختيار ما يراه مناسبا من الأفكار والمبادئ التي يبني عليها حياته. ولقد وجدت الأجيال الحديثة التي خرجت في القرن الأخير من واقع الحروب والمجازر والصراعات الدموية الحل الذهبي في مثل تلك الأفكار، لأنهم استنتجوا (وفق تصورهم) أن هذه الصراعات كانت ناتجة عن اعتقاد البعض أن من حقهم فرض أفكارهم واعتقاداتهم على من سواهم من البشر كنوع من التسلط الفكري، فنتج عن هذا المبدأ أن اشتعلت تلك النزاعات والحروب، وبالتالي فإذا أردنا أن نمنع تكرار تلك المآسي الدموية في المستقبل فعلينا أن نمنع مصدرها الفكري السيء. فكانت المناداة بالحرية الفكرية المطلقة والتي وفقها لا يستطيع أي أحد ولا يمتلك الحق في فرض أفكاره على الغير كشرط أساسي لتحقيق الحرية الفكرية المطلقة.

 الحرية الفكرية المطلقة: النظرية والواقع

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ولكن التدقيق البسيط في هذا الأمر يجعلنا ندرك مدى انفصاله عن الواقع الإنساني الذي نعيشه. فبتسليمنا بأن الحرية الفكرية المطلقة فكرة صحيحة، تصبح كل الافكار (بما فيها فكرة الحرية الفكرية المطلقة نفسها) لنا الحق مهما تغيرت ظروف الزمان والمكان أن نعتقد بها أو لا نعتقد . ولو -تحت أي ظرف- انتفى هذا الحق فإن الاعتقاد بالفكرة ينتفى هو أيضا. فواقعيا لا يستطيع هذا الطيف الفكري أن يفرض أيا من معتقداته على الغير بأي أسلوب من أساليب الفرض وإلا ناقض فعله اعتقاده وبالتالي أصبح يفرض على الآخر مالا يستطيع هو أن يلتزم به. وهذه إحدى وجهات النظر للموضوع.

معضلة التطبيق

ولكن هناك وجهة نظر أخرى تقول إن الحرية الفكرية المطلقة ينبغي أن تكون آخر فكرة يمكن للإنسان فرضها على الآخرين. وبما أن فيها الشفاء من الصراعات الإنسانية الدموية، فإنه بمجرد أن نقنع آخر إنسان رافض لتلك الفكرة فإن المرض الإنساني سينتهي ويبدأ عصر التناغم الإنساني الحقيقي. وهناك أكثر من نقطة تثار ضد هذا الوضع. فأولا أن هذه الحالة المؤقتة التي أخرجنا فيها فكرة الحرية المطلقة من حيز الأفكار التي لا تفرض إلى حيز الأفكار التي تفرض على الغير حتى إن كانت تلك هي الفكرة الوحيدة في هذه المجموعة (الأفكار المفروضة) ستنتهي وتحل محلها الحالة الطبيعية التي فيها لا توجد فكرة تفرض على الآخرين. وهذه الحالة مع تنوع الرغبات ستنتهي ببعض الأفراد لا يعتقدون بالحرية المطلقة لأنه لا يوجد قاعدة تمنع اختيار أو عدم اختيار أية فكرة (حرية فكرية مطلقة). وهؤلاء الأفراد بالتالي من حقهم أن يختاروا بين أن يفرضوا أفكارهم أو لا، لأن الاعتقاد بفكرة فرض الأفكار على الآخرين خاضع للحرية الفكرية بدوره. وبالتالي سيعود “المرض” الفكري بالانتشار مرة أخرى ونضطر للعودة للحالة المؤقتة ثانيةً وهكذا في تسلسل لا نهائي. أما لو وضعنا بعض القواعد عند العودة للحالة الطبيعية تمنع عدم الاعتقاد بالحرية المطلقة فلقد وضعنا فكرة في مجموعة الأفكار التي تفرض على الناس وبالتالي (ولو بمصداق واحد) نكون قد أخللنا بالحرية المطلقة. وبالتالي سواء شئنا أم أبينا سنضطر لتصنيف بعض الأفكار بأنها مفروض الاعتقاد بها أو مفروض عدم الاعتقاد بها وهذا يناقض أساس قاعدة الحرية الفكرية المطلقة.

النطاقات الفكرية: التفاعل والصراع

وفي الواقع العملي فإن الوضع الأكثر سلمية هو أن المجموعات الإنسانية تختار لنفسها نطاقا فكريا معينا كأسلوب رؤية وتعامل مع الوجود ومن ثم يحاولون من خلال التفاعل بين نطاق الأفكار ونطاق الوجود تطوير حالة الوجود هذه نحوالأفضل. فالأفكار تنظم سلوك الفرد والمجموعة تجاه الوجود بما يعتقد أنه يطور من حالة الوجود أو يغيرها نحو الأفضل. وأن الصراع يظهر عن تعاكس أو تناقض أفكار المجموعات حول قضية مشتركة بينهم في جانب من الجوانب الوجودية. هذا التناقض أو التعاكس يستلزم تصرفات متناقضة وصراعا على المصلحة بين المجموعات الفكرية المختلفة. وفي حالة عدم التمكن من حل هذا الاختلاف فكريا فإن المجموعات تلجأ عادة وعلى الأكثرية للحلول العنيفة وهي ما ولدت وستولد دائما هذه الصراعات الدموية التي تعاني منها الإنسانية.

حتمية الاختلاف وضروريات الصراع

نخلص هنا من هذا التحليل إلى أن الاختلاف الفكري وسط طوفان الأفكار والاعتقادات المختلفة المتاحة للإنسان هو أمر حتمي. وأن إجباره على اختيار مسار معين لن يحل المشكلة بل يعمقها كما أن عدم وضع أي ضوابط للاختيار (الحرية الفكرية المطلقة) أيضا يعمق المشكلة دون حل واضح. والأمر الآخر الذي نخلص إليه أن الصراعات الإنسانية لا تنشأ فقط نتيجة لاختلاف المعايير الفكرية ولكن تستلزم أيضا وجود جهة تأثير مشتركة لتلك الأفكار. فلا نتوقع نزاعا حقيقيا بين فرد يري بالملكية الفردية وشخص لا يرى بالملكية الفردية طالما أنه لا توجد جهة تأثير مشتركة بين الفردين كأرض متنازع عليها مثلا. فالنزاع بين المنظومة الفكرية لسكان أمريكا الأصليين والذين لا يعتقدون بالملكية الشخصية وبين النظرة الأوروبية المرتكزة على الملكية الشخصية لم يخرج من الوجود الذهني للوجود الخارجي الواقعي إلا حينما دخلت قارة أمريكا كجهة تأثير مشتركة لهذه الأفكار فبدأ الفصل الدامي بالتطهير العرقي لأمريكا من سكانها الأصليين لصالح المستعمر الأوروبي. ولكن قبل هذه النقطة ظل الصراع أو الاختلاف محصورا في الوجود الذهني فقط. ولذلك فإن التزاحم في المادة يعتبر شرطا ضروريا آخر إلى جانب التزاحم الفكري لينتج من ذلك صراع مادي واقعي.

مقومات الهوية: الصراع المتطرف وحقيقة المشكلة

إن استثناء طرفي الثنائية (الحكر الفكري والحرية الفكرية المطلقة) كحل للنزاع أو التزاحم الفكري البشري، يضطرنا لإيجاد نقطة توزان بين الحرية الفكرية والثوابت الفكرية. فدخولنا في طيف الدرجات المختلفة من الحرية الفكرية وما يقابلها من الثوابت الفكرية يحتم علينا المفاضلة بين هذه الحالات العديدة المختلفة. وإن هذه المفاضلة لو لم تجر وفق قواعد سليمة فإنها لن تستطيع الوصول للحالة المثلى التي نسعى لها وهي حالة تعظيم المكاسب وتقليل الخسائر بأقصى درجة ممكنة. وبالتالي حينما ننظر للوضع الفكري الإنساني من هذا المنظور نجد أن المعادلة اختلفت تماما. فلم تعد القضية حكرا فكريا مقابل حرية مطلقة ولكن دخلت في إطار المفاضلة أو الاتزان الفكري بين بعض الأفكار التي يجب أن نتخذها كثوابت أساسية تنهار من دونها حالة الاتزان وبين متغيرات فكرية مسموح فيها بالاختلاف دون أن تمس حالة الاتزان.

البعد الآخر للاختيار “كيف نختار؟” لا “ماذا نختار؟”

أيضا سندرك أهمية تأسيس القواعد التي تتم بها المفاضلة أو الاختيار. فإدراكنا أن حالة الاتزان تعتمد على الاختيار سيجعلنا لا نهتم بسؤال ماذا نختار؟ بقدر اهتمامنا بسؤال كيف نختار؟ وإن في إجابة هذا السؤال (كيف نختار؟) نجد المقومات الأساسية لما نطلق عليه الهوية الإنسانية. فالهوية الإنسانية لا يميزها فقط اختيارات الإنسان، فالهندوسي يشترك مع النباتي في أنهما لا يأكلان اللحم. ولكن أسبابهما في اختيار هذه الفكرة تختلف. وبالتالي على الرغم من تطابق الاختيار إلا أن التوصيفين يتمايزان وذلك التمايز نابع من النظر لأسباب هذا الاختيار.

الهوية الشخصية

إذا كان السرد السابق سليما ولا يشوبه الشك أو الخطأ فإن اهتمامنا هنا بالأفكار فقط للتمييز بين النطاقات الفكرية لا يعتبر سليما ولا يأتي في الأولوية الأولى للتمييز بين هذه النطاقات واختيار الأنسب. ولكن يجب الاهتمام بهوية النطاق أو القواعد التي على أساسها بني النطاق الفكري هذا أو ذاك. هذه القواعد هي ما تشكل أساس القدرة العقلية لدى الإنسان والتي بها يدرك الوجود من حوله وطرق تعامله الممكنة مع هذا الوجود ومن ثم يختار الأنسب منها بما يوافق غايته. إذن فهي نقطة الانطلاق نحو التعامل مع الوجود. ويجب أن نسأل عن مصدرها، لأنه كما أننا لا يمكن أن نقبل أفكارا معينة إلا بعد أن نعرف أسباب أو حجية هذه الأفكار فإننا لا يجب أن نقبل بمعايير عقلية للنظر في الواقع والتفكير به إلا بعد أن نعرف مدى مصداقية وحجية هذه المعايير. خاصة وأن كل ما سيأتي بعد القبول بهذه المعايير يعتمد عليها بما في ذلك النتيجة النهائية من شقاء أو سعادة. ومن المهم ملاحظة أن كون هذه المعايير التفكيرية أساس الهوية الإنسانية يتفق مع كون ما يميز الإنسان عن غيره من الكائنات هو عقله وقدرته على التفكير. فينتج أن الهوية الشخصية للإنسان هي معاييره التفكيرية أو القواعد التي يفكر ويكون بها أفكاره

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

.

حسن مصطفى

مدرس مساعد في كلية الهندسة/جامعة الإسكندرية

كاتب حر

باحث في علوم المنطق والتفكير العلمي بمركز”بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث”

صدر له كتاب: تعرف على المنطق الرياضي

حاصل على دورة في مبادئ الاقتصاد الجزئي، جامعة إلينوي.