مقالات

غموض الحدود المكانية بين الفلسفة والجغرافيا .. الجزء الثالث

الحدّ ذو البعد الأقل

يدور اللغز الثالث من ألغاز الحدود حول حدس بسيط ينطوي عليه ضمنًا تعريف “أرسطو” المذكور سلفًا، ومؤدى هذا الحدس أن الحدّ كيانٌ ذو بعد أقل (Lower-dimensional) وفقًا للمنظور الرياضي، أعني أنه يقل ببعد واحد على الأقل عن الكيان الذي يحده. إن سطح أية كرة متصلة –على سبيل المثال– كيانٌ ذو بعدين: الطول والعرض، فليس له جوهر (Substance)، أو حجم قابل للقسمة (Divisible bulk)، في حين أن الكرة ذاتها لها ثلاثة أبعاد، و”خط ماسون – ديكسون” كيانٌ ذو بعد واحد فقط: الطول، في حين أن للسطح المحدود به بعدين، والنقطة الحدية أيًا كانت (قمة الهرم مثلًا) كيانٌ ذو بعد صفري (Zero-dimensional)، أي ليست لها أبعاد لأنها لا تمتد في اتجاه ما، في حين أن للخط المؤلف من نقاط بعدًا واحدًا!

لا شك أن هذا الحدس الرياضي البسيط موافق لكثيرٍ مما نقوله عادة عن الحدود، لكن إشكاليته تتجلى في تعارضه مع الحدوس الأخرى للحس المشترك فيما يتعلق بالإدراك الحسي للموضوعات المادية، فعلى سبيل المثال، هناك تقليد قائم في الإبستمولوجيا [من “جورج مور” (G. E. Moore 1873 – 1958) إلى “جيمس جيبسون” (J. Gibson 1904 – 1979)]، تؤدي الحدود وفقًا له دورًا حاسمًا في عملية الإدراك الحسي (Perception)، فنحن نرى موضوعات فيزيائية مُبهمة (أي دون أية تفصيلات جزئية) برؤيتنا لأسطحها أو لأجزاءٍ من هذه الأسطح على نحوٍ مباشر، فالحدود إذًا هي العنصر المكاني لمدركاتنا الحسية، ومن دونها لن نستطيع تمييز الموضوعات المختلفة في المكان الممتد.

لكن ليس من الواضح كيف يمكن للمرء أن يرى الكيانات التي ينقصها الحجم الفيزيائي! إن الحدود ذات الأحجام المنقسمة يمكن أن تعالج كونها أجزاء عادية خاصة بالأجسام التي تحدها، لكن كيف ينتمي الخط ذو البعد الواحد إلى سطحٍ ذي بعدين؟ وإذا كان الخط يقطع السطح المتصل في منطقة معينة منه، فإلى أي الجزئين المفصولين ينتمي؟ وكيف يمكن للأسطح ذات البعدين أن تنتمي إلى الموضوعات المادية بأبعادها الثلاثية، وكيف تفصل بين هذه الموضوعات ما دامت افتقدت إلى الحجم القابل للقسمة؟!

الحق أننا إذا سلّمنا بوجود الحدود أنها كيانات ذات أبعادٍ أقل وقعنا في براثن الألغاز المجملة في الفقرات السابقة، وإذا سلمنا بعدم وجودها أصلًا فقدنا عنصرًا هامًا من عناصر الإدراك الحسي، لنبدو حينئذ كالإسكيمو الذين حين يُعرض عليهم شريطًا سينمائيًا لأول مرة في حياتهم يهرعون إلى آلة تنزع ما يرونه على الشاشة، ليكتشفوا بعد ذلك أنهم لم يقتلوا الحيوان المفترس بطمس صورته! كيف نوفق إذًا بين التصور الرياضي المثالي للحدود، وبين قولنا بالوجود الواقعي لها كونها كيانات نستطيع بها تمييز الأشياء؟

انقسم الفلاسفة في إجاباتهم عن هذا السؤال فريقين، فريقٌ أنكر تمامًا الوجود الفعلي أو الواقعي للحدود بالاستقلال عن الذات العارفة، ونظر إليها أنها تجريدات رياضية –أو أدوات عقلية– يتم بها تمثل الواقع وتقريب ظواهره إلى الفهم، وهؤلاء أصحاب النزعة الاستبعادية (Eliminativism)، وفريقٌ أكد وجود الحدود في العالم حتى لو لم ندركها، لكنه اعتبرها “أقل واقعية” من الكيانات التي تحدها.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وبعبارة أخرى، ينظر أصحاب هذه الرؤية –وهم ممثلوا النزعة الواقعية (Realism)– إلى الحدود أنها طفيليات أنطولوجية (Ontological parasites)، بمعنى أن الحدود لا يمكن أن توجد بمعزل عن الكيانات التي تحدها، وإن كان هناك اختلاف فيما إذا كان هذا الاعتماد الأنطولوجي يتعلق بالجنس (Genus) أم بالنوع (Species). وهكذا فإذا افترضنا مثلًا أن (أ) و(ب) أي كيانين ممتدين منفصلين بحدٍ ما (مثل ماريلاند وبنسلفانيا)، أمكننا التمييز بين أربع نظريات أساسية للواقعيين:

  1. الحدّ قد لا ينتمي إلى (أ) ولا إلى (ب)، وتلك رؤية “ليوناردو دافنشي”، وإن كانت لا تلقى دعمًا كافيًا من الفلاسفة المعاصرين، ربما باستثناء “هيستيفولد” ( S. Hestevold). ووفقا لهذه الرؤية يتحقق الاتصال بين (أ) و(ب) إذا كان الاثنان مفتوحين طوبولوجيًا، أي طالما كان ختام (أ) يلتحم بختام (ب) دون أن يقع بينهما شيء، ومن ثم فلا توجد نقطة أخيرة (ق) لماريلاند ولا نقطة أولى (ل) لبنسلفانيا!
  2. الحدّ يجب أن ينتمي إما إلى (أ) أو إلى (ب)، وإن كنا لا نستطيع تحديد انتمائه إلى أي منهما. وترجع هذه الرؤية إلى “برنارد بولزانو” ( Bolzano 1781 – 1848)، الذي ذهب إلى أن قيام الاتصال بين الكيانين (أ) و(ب) المفصولين بحدٍ ما مشروطٌ بكون أحدهما مفتوحًا طوبولوجيًا والآخر مغلقًا طوبولوجيًا في منطقة اتصال ملائمة. ويمكن تفسير “عدم التحديد” هنا إما أنه عدم تحديد سيمانطيقي (Semantic) أو أنه عدم تحديد معرفي (Epistemic)، اعتمادًا على ما إذا كان الحدّ محل الدراسة من النوع الموضوع أو من النوع الحقيقي، وإن كان عدم التحديد في الحالتين يترك المسألة دون بت.
  3. الحدّ قد ينتمي إلى كلٍ من (أ) و(ب)، لكن التحامهما في موضع الحدّ يكون من نوعه الخاص (Sui generis)، بقدر ما يتضمن أجزاء ذات بُعد أقل، وبعبارة أخرى، يمكن القول –وفقًا لهذه الرؤية– إن الحدّ لا يشغل مكانًا خاصًا به أو بواحدٍ فقط من الكيانين المحدودين، ومن ثم فإذا كان الخط الفاصل بين بقعة سوداء وخلفيتها البيضاء ينتمي إلى كليهما، فإن لونه يجب أن يكون هجينًا من اللونين الأسود والأبيض، وبالمثل، فإن الجسم الذي يجتاز التحول من حالة الثبات إلى حالة الحركة في لحظة ما، يجب أن يكون ثابتًا ومتحركًا معًا في تلك اللحظة.
  4. قد يكون هناك بالفعل حدّان: أحدهما ينتمي إلى (أ)، والآخر ينتمي إلى (ب)، لكن هذين الحدين يجب أن يكونا مشتركين في الموضع الحدّي، بمعنى أنهما يتطابقان مكانيًا دون أن يلتحما ميريولوجيًا. ويمكن العودة بهذه الرؤية إلى “فرانز برنتانو” ( Brentano 1838 – 1917)، لكن قام على تفصيلها وتهذيبها “رودريك تشيشولم” (R. M. Chisholm 1917 – 1999) خلال العقد الأخير من القرن العشرين، إذ رفضا معًا أي تمييز بين كيانات مغلقة وأخرى مفتوحة (كما فعل بولزانو)، وعالجا كل الأجسام الممتدة أنها كيانات مغلقة.

من الواضح –بالنظر إلى هذه النظريات– أنها جميعًا ذات طابع احتمالي، بما في ذلك النظرية الثانية التي أوجبت –دون تحديد دقيق– انتماء الحدّ إلى أحد الكيانين المحدودين به، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على عجز النزعة الواقعية عن تقديم تبريرات كافية لنظرياتها، فلا فارق بينها إذًا وبين النزعة الاستبعادية، فكل منهما ينطلق من مبدأ ميتافيزيقي يؤكد –أو ينفي– الوجود الفعلي للحدود! والخيار الأقرب للمنطق، والمشبع لحاجات العلم الإبستمولوجية، أن نؤكد وجود الحدود، وأن نؤكد في الوقت ذاته أنها كيانات يكتنفها الغموض، ومن ثم فإن تناولنا لها لا يعدو أن يكون تناولًا رياضيًا تقريبًا، بشرط أن نسعى أولًا إلى تحديد ماهية هذا الغموض: هل هو غموض أنطولوجي يتعلق بالحدود ذاتها؟ أم غموض إبستمولوجي (ومن ثم لغوي) يتعلق بأدواتنا المعرفية والتعبيرية المستخدمة؟ ووفقًا لهذا التحديد نستطيع وضع علاج مقبول للمشكلة، إما بتجاهلها كليًة والاستمرار في التعامل معها أنها كيانات غامضة في ذاتها، أو بالسعي إلى تجاوز الغموض الإدراكي والسيمانطيقي بتقديم اقتراحات أقل إشكالية وأوسع قبولًا.

الحدّ ومفهوم الهوية

قبل أن نتناول بالتفصيل لغز الغموض والعلاج المقترح له، نشير إلى لغز رابع يتعلق بمفهوم الهوية (Identity)، هوية الكيانات الجغرافية المتنوعة ومدى ثباتها أنها كيانات ذات تخوم متغيرة، فعلى الرغم من استقرار الكيانات الجغرافية في أماكن قيامها، بل وارتباطها الوثيق بخصائص تلك الأماكن، فإن تخومها ليست ثابتة على نحوٍ مطلق، وإنما تعاني تغييرًا مستمرًا من زمنٍ إلى آخر. وكما تتغير التخوم، فكذلك الكيانات الجغرافية المحدودة بها.

وبغض الطرف عن التغييرات الجيولوجية التي تحدث بفعل الطبيعة من وقت إلى آخر، فإن ما يحدث من تغييرات بأيدي البشر يُعد أعمق وأسرع وأبعد تأثيرًا فيما يتعلق بمسألة الهوية، وليس أدل على ذلك من العبء الملقى على عاتق رجال الجغرافيا السياسية نحو رسم خريطة العالم وإعادة رسمها بعد كل تغيير سياسي، والأمثلة على ذلك كثيرة ومتنوعة: تقسيم تشيكوسلوفاكيا (Czechoslovakia)، وانشطار يوجوسلافيا (Yugoslavia)، وتفكك الاتحاد السوفيتي (Sovietunion)، وتوحيد شطري ألمانيا، واستقلال إريتريا (Eritrea)، وانفصال تيمور الشرقية (Eastern Timor)، وانضمام هونج كونج إلى الصين، إلخ.

وربما يتساءل الجغرافيون الآن: كم سيمضي من الزمن قبل أن تنضم تايوان أيضًا إلى الصين؟ وكم سيمضي من الزمن قبل أن تتحد الكوريتان (كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية)؟ وإلى أي مدى زمني سوف تستمر كيبك (Quebec) جزءًا من كندا؟ أو سوف تستمر دول مثل العراق وتركيا وسوريا دولًا مُوحدة؟

بعبارة أخرى، لقد أصبحت الجغرافيا أداة فعالة لتحديد الهوية السياسية للأمم والشعوب، كما أن فن رسم الخرائط (Cartography) بات يؤخذ كونه إجراء ضروريًا لإضفاء الشرعية على توجهات السياسيين، حتى لو تعارض ذلك مع البنى المميزة للكيان الجغرافي كونه كيانًا ذي هوية مكانية ثابتة، أو كيان له شخصيته المكانية المحددة، التي من دونها يمكن أن يفقد هويته المفهومة عمومًا.

لا شك أن نظرتنا للموضوعات الجغرافية الطبيعية –مثل الأنهار والجبال والجُزر– هي نظرتنا ذاتها للكيانات الفيزيائية الأخرى مثل الأحجار والأشجار وكومات الرمال، التي نركز في تحديدنا لهوياتها على الصفات الأساسية الثابتة لها، لكن ماذا عن تجزئة وإعادة تجزئة الأجزاء للدول والمُدن ذات الهوية المكانية الواحدة؟ وماذا عن تجزئة الكيانات الجغرافية التي ترتبط هوياتها على نحوٍ وثيق بأشكال مختلفة من النشاط الإنساني؟

لنفرض مثلًا أن كيبك قد انفصلت عن كندا، وأن الجزء الباقي من كندا (أي الذي لا يتضمن كيبك) هو “كند” (دون الألف): هل يمكننا حينئذ القول إن “كند” أصبحت في هوية مع “كندا”؟ هل نقول بدلًا من ذلك إن “كند” و”كندا” كيانان مميزان جغرافيًا حتى ولو كانا يشغلان المنطقة ذاتها من المكان؟ وهل تبقى “كندا” كلها بعد فقدان “كيبك”، مع أن الاسم “كندا” ترثه “كند” بمقتضى تشابهها مع الأمة الأصلية؟

إن اللغز مماثل حقًا لتلك الحيرة التي تكتنف مناقشتنا للشروط الثابتة للكائنات الحية، والتي بها تتحقق هويتها، خذ مثلًا حالة القطة التي ينقطع ذيلها إثر حادث ما: فهل تظل القطة محتفظة بهويتها بعد الحادث؟ هل تصبح في هوية مع جزء من أجزائها؟ هل تتطابق مكانيًا مع جزء منها وإن كان الجزء الأكبر؟ على أن الأمر هنا أكثر تعقيدًا، ففي حالة القطة لدينا حدث ينجم عنه تغيير فيزيائي بالفعل، فالذيل ينفصل فيزيائيًا عن باقي الجسد، وهذا يؤثر على القطة كلها (إذ نقول إنها فقدت أحد أجزائها)، وعلى الجزء الباقي منها الذي يصبح متطابقًا مع الكل (أي الذي لم يفقد أية أجزاء لكن بات له حدٌ جديد مكتسب)، أما في حالة فقدان “كندا” لمقاطعة “كيبك” فعلى العكس من ذلك، ليس هنالك أي تغيير فيزيائي، وإنما بالأحرى تغيير سياسي وضعي، وهذا الأخير لا يؤثر بحال من الأحوال في هندسة الوضع للدولة كلها.

لقد تساءل “فريجه” (G. Frege 1848 – 1925) في تحليله لعلاقة الهوية المنطقية، ذات الصيغة الصادقة قبليًا (أ هي أ): “هل هي علاقة بين أشياء أم بين ألفاظ؟”، وتوصل إلى أنها علاقة بين ألفاظ، لأن الأشياء المادية تجتاز تغييرًا متصلًا طوال مدة بقائها، ومن ثم لا يصح القول حين نصف هوية شيءٍ ما إن (أ هي أ)، وإنما نقول (أ هي ب) أو (أ هي ج)، وهكذا. لكن ماذا لو كانت الألفاظ ذاتها غامضة؟ ماذا لو كانت ذات معانٍ غائمة؟ ماذا لو كانت غير محددة الإشارة من المنظور الزماني – المكاني؟ ألا يتطلب ذلك بحثًا في الجانب السيمانطيقي للكلمات علّنا نجد مخرجًا من لغز الهوية وغيره من الألغاز؟

دعنا نتابع تحليلنا!

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

الجزء الثاني من المقال

هل هناك قطيعة إبستمولوجية في الفكر العربي؟

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية