الجرّاح مهاتير محمد
على مدار التاريخ والعصور تأتي أمم وتزول أخرى، وتقوم ممالِك وتذهب أخرى إلى غير رجعة، هنا وهنا فقط نذكُر المُصلح بصلاحه وبِنائه، ونلفظ المُفسد ونذكره بهدمه وأنانيته.
نتكلّم عن فرد عادي فقير، ولكنه وضع نصب عينيه بلده والإصرار على رفعه وانتشاله من براثن الفقر والعوز ووهْدَة الوحل والفُرْقة، إلى دولة قوية لها شأنها ذات اقتصاد مؤثّر في آسيا.
التفوق لا يأتي بالمصادفة
لقد كان يشعر بعائلته وظروفها، فعمل على بيع الموز والوجبات والقهوة، وكانت أمه تربّي الدجاج والبط في المنزل وتصنع أشياء وتبيعها، فكان يساعدها ويحتطب لإعداد النار للطهي والطعام وكانت في المقابل تعطي له مصروفًا إضافيًا لقاء هذه المساعدات، وكان يصنع بعض الأشياء والألعاب ويبيعها لزملاء الدراسة والحصول على مكسب بسيط من المال.
وليس عيبًا إعطاء الأولاد بعض الأموال في مقابل تشجيعهم وتحفيزهم على الأعمال التي قاموا بها لنغرس فيهم الاعتماد على النفس وتحمّل المسؤولية والعفاف والكسب الحلال، وعدم مد اليد لغيرهم بالسؤال.
كان مهاتير طالبًا مجتهدًا نشيطًا في دراسته مهتمًا بالحضور وبالرغم من ذلك كان يذهب إلى المدرسة مشيًا على الأقدام، وأكمل مراحله التعليمية الابتدائية والإعدادية والثانوية، ثم الطب، فكان له السبق والتفوق على أقرانه ونظرائه.
إنّ التفوق لا يأتي على سبيل المصادفة ولا هدية يهديها إليك أحد الأقارب أو الأصدقاء، وإنما يأتي بالتعب والعرق والسهر، بل يمكننا القول بأنّ الإنسان الحريص على نفسه ومستقبله يسعى إلى النجاح حثيثًا ليرفعه ويُعلي من شأنه.
تعلّم مهاتير محمد الأخلاق مع المعاملات والتزام الصمت، وطلب المشورة من الأكبر سِنًا ورؤسائه وأساتذته والاستقلالية واحترام الكبير والاهتمام بألقاب ألفاظ التشريف والاهتمام بقضايا وطنه والسعي إلى النهوض به، ولكن بالعقل والعلم والحِلم وعدم إحداث المشكلات والاحتكاك الذي يؤدي إلى الفُرقة والمُشاحنة.
اهتمامه ببناء الإنسان
اهتم بالأنشطة الحياتية اليومية كافة، مثل دقة المواعيد والنظافة وحماية البيئة، وانخرط في السياسة بفهم ووعي وتؤدة، وعلى الرغم أنّ ماليزيا بها أقليات كثيرة وكانت مستعمرة بريطانية ويابانية إلا أنّ التعايش والمحبة والسلام سادت في ربوعها بين الجميع.
والملاحَظ أنه عند مغادرة البريطانيين للبلاد كانت في فقر شديد، فكان دخل الفرد في سنة الاستقلال 1957 أدنى من 350 دولارا، وأكثر من 70 % من السكان يعيشون تحت خط الفقر، ونسبة الذين يعرفون القراءة والكتابة متدنية للغاية ولم يتجاوز عدد حاملي الشهادات الجامعية 100 شخص في أنحاء البلاد.
وبالنظر الآن نجد أنّ دخل الفرد في ماليزيا وصل 7000 دولار أو ما يوازي 14000 دولار حسب القوة الشرائية، وتدنت نسبة السكان الذين تحت خط الفقر عن 5 % منهم 1 % فقط يعيشون في فقر مدقع، وتجاوزت نسبة المتعلمين 90 % ومئات الآلاف من خريجي الجامعات، وشبكة من الطرق السريعة الحديثة تصل القرى النائية وتربط أجزاء البلاد.
إنّ بناء الدول لا يكون بالتمني ولا بمصمصة الشفاه ولا بالشعارات واللافتات الجوفاء، وإنما يتطلّب ذلك بناء الإنسان من فِكر راق وتعليم هادف وصحة سليمة والسعي والإصلاح والتعمير والبناء والصبر والتعاون والتسامح، واستخدام الموارد المُتاحة، والاهتمام بالزراعة والصناعة والتجارة لعدم الحاجة إلى الغير.
جمعه بين الوعي والثقافة والأخلاق
اهتم مهاتير بكل هذه الجوانب ووضعها في أولوياته مع فريق عمله، فعلى سبيل المثال أعطى التعليم أولوية فأكّد على تعليم الإنجليزية، وركّز على تعليم العلوم والرياضيات باللغة الإنجليزية، وأدخل برامج التفكير العقلاني والمنطقي، والمِعداد في الحساب، والانضباط المدرسي،
لقد عمل على تشغيل العقول وتحريرها، وتحرير المدارس ومناهجها، وتم عمل البرامج وتدريب المعلمين الشباب، وقد ساعده في ذلك عضويته في البرلمان، وتعيينه في مجلس جامعة ملايا، ثم أصبح رئيسًا لمجلس التعليم العالي الماليزي، كما تولى حقيبة التربية والتعليم في سنة 1974، وبعد ذلك رئيسًا للوزراء.
لقد راهن مهاتير محمد على مسألة الوعي ونشر الثقافة والأخلاق وإدخالها وتدريسها، فأقبل الناس على التعليم والعمل في جميع المجالات بإخلاص، وتم إدخال المعاهد التكنولوجية جنبًا إلى جنب مع اللغة الإنجليزية، كما عمل على تثبيت لغة بلاده ورفع شأنها للحفاظ على هويتها وتراثها وموروثها لتنال الاحترام أمام نفسها والعالم.
وتعلّم اللغة الإنجليزية الذي هدف إليه مهاتير لفهم اللغة المشتركة للتواصل والمعرفة والتجارة الدولية، ومعرفة ثقافتهم وطرق تفكيرهم وحضارتهم تمامًا، كما توجّب على أوروبا تعليم اللغة العربية للحاق بالعرب في زمان الحضارة الإسلامية المزدهرة.
اقرأ أيضاً:
اهتمامٌ ببناءِ البنيانِ وإهمالُ بناء الإنسانِ
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.