إصداراتمقالات

الجدل الأزلى: العقل أم النص – نظرة منطقية

العقل أم النص ؟
يظل هدفي دائما دون الدخول في التفاصيل الملتوية كالأفعى هو الحكم المنطقي العقلي. فأنا إنسان بسيط مقتنع بأن الله لم يعطني أداة أحكم بها على الواقع أقوى من عقلي. وأن عقلي وتفكيري هو ما سأحاسب عليه قبل كل شيء. والعقل يطلب البرهان دائما على المعتقدات والأفكار المطروحة. الذي دونه يكون الإيمان متزعزع وهش، فينكسر عند أول اختبار. موضوعنا هو موضوع قامت من أجله الدنيا في الشرق والغرب وفي كل حدب وصوب ولم تقعد. فلا يعتقد أن هذه المشكلة خاصة بدين معين دون غيره أو بحضارة بعينها دون غيرها من الحضارات أو – وهذا العجيب فعلا – بعلم معين دون غيره. فسؤال “العقل أم النص؟” هو سؤال مفتوح في كل المجالات الإنسانية. والسؤال بالطبع لم يترك دون إجابة، فعلى مر الزمن قام الكثير من الفلاسفة والمفكرين من المدارس المختلفة بالإجابة على هذا السؤال ضمنًا أو تصريحا بإجابات متباينة.

الطريقة النصية الإخبارية

لن نحاول الدخول في متاهات التاريخ لنصل لجواب ولكن سنحاول الإجابة على السؤال من خلال تحليل منطقي خالص. المسألة تختلف باختلاف المدرسة العلمية ولكن أصعب ما نواجهه هو آراء المدارس الأخبارية (النصية) في علوم الدين. لأن تلك المدارس تقدم نوعا خاصا من النصوص على العقل وهو النص المقدس (إلهي أو نبوي). ويواجه الإنسان حين الاعتراض على مثل هذه التوجهات والاستنتاجات الهجوم الشديد بتهم شتى أبرزها تهمة اعتقاد المعترض أن عقله أفضل من نص الإله أو النبي. وهذا ينافي الغرض ومنطلق الاعتراض تماما. بموضوعية نتساءل عن الأسلوب الذي يتبعه الإخباري في دراسته للنصوص والتراث الذي يقدمه على العقل. ففي رأينا أنه يستحيل استخراج أي مفهوم من أي نص أيا كان دون إعمال العقل فيه. ففهم النصوص بأبسط الصور يعتمد على فهم الألفاظ التي تكونها وفهم العلاقة التي تربط هذه الألفاظ ببعضها البعض. هذه العملية والتي تتمركز حول الربط بين الألفاظ والمعاني التي تدل عليها (وهي عملية مؤسسة على قواعد عقلية مذكورة في مباحث الدلالة) ثم اصطفاء المعاني الأنسب لواقع النص وغرضه لاستخلاص معنى النص هي عملية عقلية بحتة. فلما كانت دراسة النصوص تستلزم القيام بهذه العملية. ينتج من ذلك أنه يستحيل دراسة النص دون إعمال العقل فيه ولو بأبسط الصور الممكنة. فهل يستطيع أحد أن يستفيد من نصًا ما دون أن يقوم بهذه العملية العقلية؟

أما لو قيَّمنا هذه الطريقة في الدراسة لوجدنا أنه يشوبها عيبا كبيرا. فمع اختلاف الحضارات والعصور تختلف الألفاظ والدلالات. فكلمة “العربة” لا تدل على نفس المفهوم الذي كانت تدل عليه منذ 1400 عام. ناهيك عن اندثار الكثير من الألفاظ في الثقافات المختلفة أو ندرة استخدامها. فكان لابد من ضبط عملية الحكم العقلي على النصوص بما لا يخالف المبادئ الإنسانية الأصلية المبرهن عليها في الرؤية الكونية. فبدون وضع هذه القواعد يتاح للمغرض أو الجاهل أن يضع لتركيبات الألفاظ (النصوص) تركيبات مختلفة من الدلالات (المعاني) التي قد تنافي في كثير – إن لم يكن أغلب الحالات – المعنى المقصود والأسس العقائدية للمنهج. ولذلك فلما كان هناك استحالة لفهم النصوص دون عقل ولما كان احتمال عدم مراعاة أداة العقل عند التفسير فوجب أن توضح القواعد التي تعصم الذهن من الخطأ عند دراسة النص. هذه القواعد تشترك في العموم مع البديهيات العقلية من حيث عدم اجتماع ولا ارتفاع النقيضين وأصل العلية و… إلخ. ولكن تختلف في الخصوص من علم لعلم ففي العلوم التطبيقية يضاف إليها قواعد الرياضة وبعض المسلمات الخاصة بكل علم بينما في العلوم الدينية يضاف إليها عدم الخروج عن أصول الاعتقاد (الرؤية الكونية) كقاعدة عامة، مع بعض الخصائص الأخرى لكل فرع من تلك العلوم.

العقل وحده لا يكفي ولكن …

أما النقطة الأخرى للنقاش فتتمركز حول عدم استطاعة العقل العمل في الجزئيات والتفاصيل التشريعية الدقيقة. وهذه مقدمة صحيحة ولكن يستنتج عليها نتيجة باطلة وهو أن النص بذلك نطاقه أوسع من العقل ولذلك فاستخدام النص أولى من استخدام العقل وأفضل منه. ويتم تعميم النتيجة، وهذه مغالطة كبيرة. نعم العقل لا يعمل وحده في الجزئيات. لكن حتى في الجزئيات ستحتاج لأداة العقل في العملية اللفظية لفهم النصوص. صحيح أن قدرته الحكمية محدودة هنا ولكن دوره ما زال ضروريا لفهم النص على الأقل. فمثلا في تشريع عدد الركعات في الصلوات لن يستطيع العقل وحده أن يصل، لكن ما زلنا نحتاج للعقل لنربط بين الألفاظ والدلالات. ولكن ليس للعقل دور هنا في الحكم بصحة أو خطأ هذا التشريع. ويترك هذا الدور لعلوم أخري كعلم الرجال مثلا (والذي هو كعلم في ذاته يحتاج للعقل لإتقان مسائله وفهم مواضيعه وتطبيقه على الحالات المختلفة).

اضغط على الاعلان لو أعجبك

النقطة الثانية هي أنه ليست كل القضايا في الدين جزئية لنلغي دور العقل في الحكم على النصوص ونقدم النص في المطلق. فلا تزال هناك قضايا كلية أساسية تظهر بعض النصوص التي تقوضها أو تعارضها. هنا لو قدمنا النص سينهار الدين كله ولهذا يجب هنا إطلاق العقل بكامل سلطاته فيصل لبديلين لا ثالث لهما. فإما أن يضرب بالنص عرض الحائط ويهمله وإما أن يؤوله (يبحث في المنظومة الدلالية عن المعاني التي لاتعارض الكليات) بطريقة تتفق مع الأساسيات

حاكمية العقل على النص وباقي الأدوات

. في النهاية نختتم بنقطتين غاية في الأهمية. النقطة الأولى هي أن استعانة العقل بالأدوات الأخرى في التعامل مع الجزئيات (النص في جزئيات الدين والتجربة في جزئيات الطبيعة والإشراق في جزئيات الروح) ليس عيبا ولا ينقص من قدر العقل شيئا. إنه لهذا الغرض خلق الإنسان بهذه الأدوات. فالإدعاء بأن أي عدد أو توفيق من هذه الأدوات لا قيمة له أو عبث هو إدعاء بأن جزء من صنعة الله عبثي. والله لا يخلق شيئا عبثا؛ لأن هذا لا يتفق مع أصول اعتقادنا بكمال الله وتنزهه عن العبث واللهو. النقطة الثانية هي أن للعقل التقديم والحاكمية على بقية تلك الأدوات لأن عصمة قواعده وقوانينه ذاتية فيه ويمكن مراجعتها وإعادة إنتاجها واستنتاجها بنفس الدقة آلاف آلاف المرات. لكن الأدوات الأخرى وإن كان لها قواعد فإن قواعدها موضوعة من قبل أداة العقل في المقام الأول وإلا لما استقام الاستدلال بها. ثانيا أنها لا تحدد من ذاتها أين يجب أن تعمل وأين لا يجب أن تعمل. ولكن الاستعانة بأي آلة معرفية مناط بإرادة الإنسان ووعيه الذهني.

اقرأ أيضا… نبي الله محمد ودوره في ارتقاء الفكر الإنساني…مولد ربيع العقل (1-2)

اقرأ أيضا…نبي الله محمد ودوره في ارتقاء الفكر الإنساني…مولد ربيع العقل(2-2)

اقرأ أيضا… العاطفة والعقل…حرب لا تنتهي وصراع يصعب على الكثير عقله

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

حسن مصطفى

مدرس مساعد في كلية الهندسة/جامعة الإسكندرية

كاتب حر

باحث في علوم المنطق والتفكير العلمي بمركز”بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث”

صدر له كتاب: تعرف على المنطق الرياضي

حاصل على دورة في مبادئ الاقتصاد الجزئي، جامعة إلينوي.

مقالات ذات صلة