الثقافة والحضارة
لا شك أن هناك تصادم بين الثقافة والحضارة، هذا التصادم كان نتاج رفض الحضارة الرأسمالية بطبيعتها وبدرجات مختلفة للثقافة؛ ذلك لأن الثقافة في جذورها الأولى صدرت من أصل ديني؛ فهي التي علمت الإنسان أنه مختلف عن بقية الكائنات وأنه صاحب مسئولية وأنه حر الاختيار، بغض النظر عن بعض المذاهب الفكرية والتي تذهب إلى جبرية الإنسان والتي ظهرت حديثا ولكنها لم تستطع أن تغطي على الحقيقة الأكيدة وهي مسئولية الإنسان وحريته، والتي استقاها من ثقافته عبر الأزمان والذي يمثل الدين جزءًا أساسيًا من هذه الثقافة.
الثقافة بجانب الدين تشمل الفن والأدب والموسيقى والفلسفة والتي من شأنها أن تعبر عن الإنسان كإنسان مختلف عن بقية الكائنات الأخرى تعبر عن ذاتيته، عن مشاعره وعواطفه. إن هذه الثقافة وجدت مع الإنسان منذ بدايته إلى يومنا هذا، وتطورت معه مع مرور الزمان، وجدت معه ولم توجد مع غيره من الكائنات، إنه متفرد عنهم بالثقافة.
لقد دأب الماديون المدافعون عن الحضارة توجية نظرنا إلى الجانب الخارجي الآلي للأشياء بعيدا عما نتفرد به من ثقافة وما تتضمنه من دين وفن وأدب وفلسفة وكل ما من شأنه أن يذكر الإنسان بإنسانيته وأنه ليس مجرد آلة صماء لا مشاعر ولا عواطف لها. فيقول “أنجلز” : “إن اليد ليست عضو العمل فقط، وإنما هي أيضا نتاج العمل… فمن خلال العمل اكتسبت اليد البشرية هذه الدرجة الرفيعة من الإتقان الذي استطاعت من خلاله أن تنتج لوحات “رافايللو” وتماثيل “ثورفالدسن” ورسومات “مايكل أنجلو” في كنيسة سكستين.
” أنجلز” يعرض رؤيته عن الإنسان من منطلق حضاري لا ثقافي، الحضارة هي فن يتعلق بالوظيفة والسيطرة وصناعة الأشياء تامة الكمال، الحضارة هي استمرارية التقدم التقني وليس التقدم الروحي للإنسان والمسئول عن هذا التقدم الروحي الثقافة والتي هي تأثير الدين على الإنسان وتأثير الإنسان على الإنسان، الثقافة هي الفن الذي يكون به الإنسان إنسانا، الثقافة شعور دائم الحضور بالاختيار وتعبير عن الحرية الإنسانية.
إن ما يتحدث عنه ” أنجلز” هو استمرارية النمو البيولوجي وليس النمو الروحي. وفن التصوير عمل روحي وليس عملا تقنيا؛ فقد أبدع “رفائيل” لوحاته ليس بيده وإنما بروحه، وكتب “بيتهوفن” أعظم أعماله الموسيقية بعد أن أصيب بالصمم! إن النمو البيولوجي وحده حتى لو امتد إلى أبد الآبدين، ما كان يمنحنا لوحات “رافائيل” فالروح والتي هي المعرفة الإنسانية والتي كان من نتاجها الثقافة، هي التي نقلت البشرية من عالم “البهيمية “إلى عالم “الأنسنة” وهذا ما ميز الإنسان عن بقية الكائنات الأخرى، ولعل هذه هي الحلقة المفقودة في نظرية التطور لتشارلز دارون.
وهذا “فردريك نيتشة” من فلاسفة الماديين يرى أن الحضارة يبنيها الأقوياء لا الضعفاء، وعنده الرحمة والضمير والصفح والتي هي من ملامح شخصية الإنسان والتي تعتبر جزءًا من ثقافته، وبها يتميز عن بقية الكائنات، إن هي إلا أخلاق الضعفاء! هو يشير إلى ذلك في كتابة “هكذا تكلم زرادشت” الإنسان الأمثل (السوبرمان) متحرر من “التحيز الأخلاقي” يحارب الرحمة والضمير والصفح، هذه المشاعر المستبدة بحياة الإنسان الداخلية تقهر الضعفاء وتطغى على أرواحهم، أما أنتم فأبناء جنس أسمى ومثلكم الأعلى هو السوبر مان والذي هو الإنسان الحيواني الكامل الذي ترقي في سلم التطور من أدنى المخلوقات إلى الحيوانية الكاملة. لقد عبر الزعيم النازي أدولف هيتلر أن أفكار وآراء الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشة مثار إعجاب لديه وكانت تصرفاته خير دليل على ذلك.
الحضارة المادية هي سعي دؤوب”للقوة الجسدية والمتعة الحسية” وفي سبيل ذلك يجب سحق الضعفاء والصعود على جثثهم كما يقول “نيتشة”. إن هذا الاتجاه يخالف ما في ثقافة الإنسان والذي يتميز به عن غيره من الكائنات من الرحمة واحتضان الضعيف والمريض، لا نجد ذلك مثلا في مجتمع النحل الذي يطرد من الخلية بلا شفقة ولا رحمة وبمنتهى القسوة النحل عديم المنفعة والذي لا يقدم شيئًا، إننا لا نجد ذلك في المجتمعات الإنسانية التي تبني المستشفيات للمرضى ودور العجائز للمسنين وتهتم بالمعاقين ذهنيا، إن كل ذلك من فعل الثقافة الإنسانية.
الحضارة عند هؤلاء الماديين يجب أن تكون متحررة من الثقافة لا تكون حضارة مؤنسنة (نسبة إلى الإنسان) يجب أن تكون حضارة مادية بمعنى الكلمة يسحق فيها الإنسان نفسه لكي يصل إلى القوة الجسدية والمتعة الحسية، فالإنسان يجب أن يتأثر بالحضارة لا يؤثر هو فيها بثقافته، وعلى الإنسان العاقل من خلال ثقافته والتي يتميز بها عن غيره من المخلوقات أن يستعين بها قبل فوات الأوان ولا ينخدع ببريق الحضارة الغربية المادية والتي من شروطها أن ينسحق فيها الإنسان، لا تنسحق هي في الإنسان!
اقرأ أيضاً: