مقالات

الثقافة الخوارزمية ومواقع التواصل الاجتماعي!

الخوارزمية (Algorithm) في الرياضيات وعلم الحاسوب تسلسل محدود من التعليمات الصارمة المستخدمة عادةً لحل فئة محددة من المشكلات أو لإجراء عملية حسابية، أو هي مجموعة من الخطوات الرياضية والمنطقية المتسلسلة اللازمة لحل مسألة ما. وترجع جذور الكلمة الإنجليزية –على حد وصف قاموس إكسفورد– إلى لقب عالم الرياضيات المسلم في القرن التاسع «أبو جعفر محمد بن موسى الخوارزمي» (Abū Jafar Muḥammad ibn Mūsā al-Khwārizmī)، الذي عاش معظم حياته في بلاد فارس. وعلى الرغم من عدم إجماع الباحثين على تعريف عام وشامل لكلمة «خوارزمية»، فإن التعريف الدارج لها والأكثر شيوعًا الآن أنها «مجموعة من القواعد التي تعبر عن سلسلة محددة من العمليات»، هذه العمليات تشمل برامج الحوسبة جميعها، بما في ذلك البرامج التي لا تُجرى بها عمليات حسابية رقمية. أما مصطلح «الثقافة الخوارزمية» فنعني به مجموعة الطرق التي يُغيِّر بها منطق البيانات الضخمة والحسابات واسعة النطاق (بما في ذلك الخوارزميات) تجاربنا وخبراتنا وفهمنا لكثرة من مناحي الحياة التي تتغلغل فيها تقنيات الذكاء الاصطناعي.

تُقدم الخوارزميات وعدًا باليقين في عالم يفتقر إليه بشدة، حتى لقد أصبح لها تأثيرٌ عميق على مجالات التعليم والصحة والنقل والتمويل والغذاء والترفيه والتجارة وأي شيء آخر قد تتخيله. لقد بدأنا للتو في فهم قوتها الهائلة، بالإضافة إلى الفرص والتهديدات التي تُبشر أو تُنذر بها. في الماضي، كنا نصنع خوارزميات تحتوي على تعليمات يستطيع الإنسان فهمها وشرحها، ومع مرور الوقت، تغلبت البيانات التي أُنشِئت، في معية تعقيد الأنظمة المعنية، على قدرة الخوارزميات التي كتبها البشر لتنظيم العالم، إن تحديد معاملة احتيالية واحدة من بين ملايين، أو التوصية بالفيديو المناسب للمستخدم، أو تنظيم حركة الشحن، أمور تتجاوز قدرة البشر على إدارتها بفاعلية بالسرعة والحجم اللذين اعتدنا عليهما. بعبارة أخرى، أدت التطورات المتسارعة لتقنيات الذكاء الاصطناعي إلى زيادة قدرة الخوارزميات على إدارة عالمنا، وبات الوصول إلى مخابئ البيانات الضخمة التي تُلتَقط من أجهزة الاستشعار وتقنيات التتبع الأخرى، بمقام مصدر لأساليب التعلم الآلي الجديدة التي أصبحت ممكنة بالاستعانة بأجهزة حاسوب أسرع وأرخص. وفي المستقبل يمكننا أن نتوقع رؤية مكاسب أكبر في مجالات مثل الطب والفن والصناعات الإبداعية والكفاءة والسلامة وغيرها، بقدر ما نتخوف من انتهاكات تتعلق بعدم المساواة، والخصوصية، والتحيز، والسلامة، والأمن!

مثال جزئي على هذه الثقافة وامتداد تأثيرها إلى العامة، نأخذ منشور الخوارزميات الذي انتشر منذ مدة على نحو مبالغ فيه على صفحات الفيسبوك (وهو منشور يحوي بعض الحروف والأرقام والرموز، ويحث الأصدقاء والمتابعين على إعادة نسخه ونشره بهدف التحايل على خوارزمية ظهور المنشورات في الفيسبوك). هذا المنشور له أولًا دلالة مهمة: تأكيد مدى ارتباط الناس بالفيسبوك وحاجتهم إليه رغم قدرته على توجيههم وتشكيل أفكارهم والتهام القدر الأكبر من أوقاتهم دون فائدة تُذكر، وهو ارتباط ذو شقين: شقٌ نفسي يتمثل في الحاجة إلى تقدير الذات واحترامها بالتفاعل مع الآخرين برموز الإعجاب والحب والضحك وغيرها، أو بالتعليقات والمشاركات، وهو ما يمنح المرء شعورًا بالأهمية والشُهرة النسبية التي قد يفتقدها بالفعل في عالمه الواقعي، حتى وإن كان المحتوى الذي يُقدمه يتسم بالتفاهة! إنها باختصار عملية البحث عن «أنفسنا» التي نقدمها على الفيس أنها هويات مرغوبة اجتماعيًا، التي نطمح في أن نكونها وإن اختلفت اختلافًا كبيرًا عن تلك التي يعلمها المُقربون لنا بالفعل!

المنشور ثانيًا ليس بجديد، لكنه يرجع إلى بضع سنوات خلت، وقد حرصت شركة ميتا ذاتها وعددٌ كبير من المبرمجين والمشتغلين بتطوير خوارزميات الفيسبوك على تكذيبه أكثر من مرة، وربما الاستفادة منه في فهم آليات انتشار الشائعات وانجراف الوعي الجمعي نحو تصديقها وترديدها، في معية عدم الفهم لتطبيقات التعلم الآلي!

بصفة عامة، تجمع معظم المواقع التجارية، من منصات التواصل الاجتماعي إلى منافذ الأخبار إلى تجار التجزئة عبر الإنترنت، مجموعة واسعة من البيانات بخصوص سلوكيات مستخدميها. وتستخدم المنصات هذه البيانات لتقديم المحتوى والتوصيات بناءً على اهتمامات المستخدمين وسماتهم، وللسماح للمعلنين بتوجيه الإعلانات إلى شرائح محددة نسبيًا من الجمهور. لكن ما مدى فهم الناس لأنظمة التصنيف المعتمدة على الخوارزميات؟ وإلى أي مدى يعتقدون أن حياتهم تتوافق مع ما يُنشَر عنهم؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

بالعودة إلى الأيام الأولى لفيسبوك، تقريبًا سنة 2006 أو نحو ذلك، كانت المنشورات تظهر إلى حد كبير بترتيب الحداثة عند فتح منصة التواصل الاجتماعي، وكانت خوارزمية نكز الأصدقاء شائعة! لكن الأمر الآن أكثر تعقيدًا، إذ خضعت خوارزمية فيسبوك (وهي نظام التصنيف الذي يستخدم التعلم الآلي لترتيب المحتوى في منشورات المستخدمين) مثل غيرها لتطويرات ضخمة. وهذا أمر منطقي تمامًا، إذ لم يصل فيسبوك إلى ثلاثة مليارات مستخدم دون معرفة كيفية جذب الأشخاص إلى ما يريدونه بالضبط في مواجز الأخبار الخاصة بهم (بصرف النظر عن محتواه). والهدف الأساسي التأكد من أنك ترى منشورات من الأشخاص والاهتمامات والأفكار التي تجدها ذات أهمية (وفقًا لدرجة ثقافتك وتوجهاتك)، سواء أكان هذا المحتوى يأتي من أشخاص تتواصل معهم بالفعل، أو كان من أشخاص قد لا تعرفهم بعد. ولتحقيق هذه الغاية، هناك ثلاثة أنواع مختلفة من المحتوى الذي سيُدرَج لك: المحتوى المتصل: أي المحتوى الذي ينشره الأصدقاء والمتابعين، والمجموعات التي انضممت إليها والصفحات التي أبديت إعجابك بها، ثم المحتوى الموصى به: أي المحتوى الذي يعتقد فيسبوك أنه سيثير اهتمامك من الصفحات والأشخاص الذين لا تتابعهم بالفعل، ثم الإعلانات: وهذه يتحكمون فيها عن طريق الاستهداف المباشر.

لانتقاء المحتوى الذي يظهر لك أو لغيرك، تراقب الخوارزمية سلوك المستخدمين السابق وتتنبأ بمدى احتمال اتخاذهم لإجراءات محددة بشأن هذا المحتوى. تتنبأ الخوارزمية بمدى احتمالية تعليقك على منشورٍ ما، ومدى احتمالية تعليق الأصدقاء أيضًا إذا شاركته، أو مدى احتمالية إثارة المنشور لمحادثة أو نقاش متبادل. على سبيل المثال، إذا كنت تدير صفحة فيسبوك خاصة بعلامة تجارية يتابعونها ويزورونها كثيرًا، ويشاركون منشوراتك بانتظام، فإن فيسبوك يعرف أنهم معجبون بها، وربما يريدون رؤية مزيد من المحتوى الخاص بك. وإذا كان المستخدم يحب التسوق في وقت ما بعد الظهر ويتفاعل مع مزيد من المنشورات ذات العلامات التجارية في أثناء ذلك الوقت، فسيكون ذلك مؤشرًا لعرض مزيد من المنشورات ذات العلامات التجارية في أثناء ذلك الوقت.

لكي تعرف سبب رؤيتك لكثيرٍ من المحتوى من أشخاصٍ بعينهم، تعتمد خوارزمية فيسبوك على التعلم الآلي اعتمادًا كبيرًا، وهي الطريقة التي تحدد بها الخوارزميات المنشورات التي تراها. إنه أمر فردي بالنسبة إليك وإلى سلوكك عبر الإنترنت، إذ تصنف الخوارزميات الخلاصات والاهتمامات والإعلانات ونتائج البحث، ومن ثم إنشاء ملف تعريف سلوكي لكل مستخدم على حدة: هل تحب مشاهدة الصور والفيديوهات، وأي نوع منها؟ هل تبحث دومًا عن نظام غذائي؟ هل تمارس الشراء مندفعًا؟ هل تبحث باستمرار عن رحلات وأماكن قضاء العطلات؟ هل أنت ناشطٌ سياسي؟ هل تكتب شيئًا يحض على الكراهية أو العنف أو غير ذلك (من وجهة نظر فيسبوك بالطبع)؟ وهكذا يستخدم فيسبوك البيانات التي لاحظها من سلوكك عبر الإنترنت لفهم ما يُعجبك وما تبحث عنه وما تود رؤيته من منشورات وإتاحة ما يتفق مع توجهاتك الثقافية بأبعادها المختلفة، ثم يستخدمها لتسويق منتجات عن الأشياء التي تبدو مهتمًا بها وإظهار إعلانات عنها. يمكن لفيسبوك أن يرى أنك تراسل شخصًا ما على الماسنجر كثيرًا، وتحب دائمًا تحديثات الحالة لشخصٍ ما، وأنك تتفاعل أكثر مع صور أشخاصٍ بعينهم وتُعلق عليها، وأنك ترغب في المعلومة السريعة أو المختصرة أو المُصورة، إلخ، ومن هذه البيانات يُحدد الفيسبوك طبيعة شخصيتك: تافه، جاد، ترغب في علاقات نسائية، تُحب الشراء، منافق، سياسي، إلخ.

هل منشور الخوارزميات إذًا خدعة؟ نعم، ويرجع ذلك أساسًا إلى أنه إذا نشرته على ملفك الشخصي، فإن الأشخاص الوحيدين الذين سيرونه، هم أولئك الذين يرون منشوراتك بالفعل وفقًا لتصنيفات الفيس السابقة، لكن من الناحية النظرية، إذا تفاعل شخص ما فجأة مع هذا المنشور (ولم يكن يتفاعل معك لمدة طويلة)، فسوف تبدأ في رؤية المحتوى الذي ينشره، ليس لأنه نسخ هذه الكلمات التي يحتويها المنشور ولصقها، وليس لأنه كتب لك شكرًا أو مرحبًا أو تم، لكن لأن الفيسبوك يتعلم باستمرار، ويمكنه رؤية أنك تعيد التواصل مع أشخاص ربما ترغب في رؤية منشوراتهم. وإذا كنت تريد التواصل مع أشخاصٍ لم تتواصل معهم منذ زمن، أو ترغب في وصول منشوراتك إليهم، فالسبيل الوحيد زيارة صفحاتهم الشخصية، والإعجاب أو التعليق على أحد تحديثاتهم الأخيرة، أو حتى أرسل لهم على الماسنجر، بإمكانك أيضًا أن تضغط على أيقونة (عرض لوحة المعلومات) في أعلى يسار صفحتك، لكي تعرف عدد مرات ظهور منشوراتك على الشاشة، وعدد من رأوها، وعدد من تفاعلوا معها بأي شكل تفاعلي، بدلًا من تصديق ما يُروجه المُخادعون وإعادة ترويجه!

أخيرًا، تذكر عزيزي القارئ أن الحداثة لم تعد سوى خوارزميات، وأن واقعنا يعترضونه الآن باستكشاف إشاراتنا النفسية واستغلالها التي تعيد كتابة التاريخ بإعادة توجيه الاستهلاك، والانتخابات، والرأي العام، والحروب، تحقيقًا لمصالح الكبار، تذكر أيضًا أن عاداتنا ومخاوفنا هي التي تحدد خياراتنا، أو بعبارة أخرى، نحن خوارزمية أنفسنا: إذا أعجبك هذا، فقد يعجبك ذاك أيضًا.

مقالات ذات صلة:

ذكريات فيس

الحرب غير المعلنة

الحركة والتكنولوجيا الحديثة

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية