القيم الخُلُقية وصناعة المعرفة العلمية .. الجزء الخامس
ممارسات علمية غير رحيمة - التوقفُ عن الإصغاء وقوعٌ في الغباء
إذا كان الفكر الاختزالي يدفع صاحبه إلى ادعاء التطابق بين فكرته وواقعه، فإنه في جانب آخر يوهم صاحبه الامتلاء، مما يدفعه إلى التوقف عن الإصغاء للواقع ومَنْ فيه، ومن ثم يقع في الغباء.
وهو ما يدفع صاحب هذا الفكر الاختزالي –إزاء كل مشكلة يواجهها– إلى حلول فكرية جاهزة سواء أكانت تلك الحلول من الماضي أم كانت من الحاضر عند غيرنا، مُسقِطًا إياها على وقائعنا وظروفنا المختلفة، لتنوب تلك الحلول عنه في مواجهة ما يواجهه من إشكاليات، ولذا كان جديرًا بموقفه أن يُعرف بـ”الاستقالة العقلية”، وبفكره المُدبّر له أن يوسم بأنه “تفكير إنابي”، أي أنه يزعم جاهزية الإجابات المطروحة عند غيرنا مكانًا وزمانًا، عن الأسئلة المطروحة في مكاننا وزماننا.
إن “الاستقالة العقلية” و”التفكير الإنابي”، وجهان لحقيقة نفسية واحدة اسمها: “الأنانية الفكرية”، إذ إن الاستقالة العقلية والتفكير الإنابي –بما يقومانِ عليه من كسل عقلي– يجعلانِ الشخصَ المُفكِّرَ أنانيًّا، لا ينشغل إلا بمطالب الذات العارفة ورؤاها وتصوراتها، فيتوقف عن الإصغاء متوهمًا الثبات في المواقف والتكرار في الحلول، غيرَ مؤمنٍ بتجدد الحياة واختلاف معطياتها، فيقع بتوقفه عن الإصغاء في الغباء.
ذلك الغباء الذي لا يأخذ مظهرًا عقليًا فقط كما سبق أنْ بيّنْتُ، بل يتعدى ذلك إلى أن يصير “غباءً نفسيًّا”، ومن ثم تتحول القضية المنظور فيها من مسألة تبحث فيها الذات المُفكّرة للوقوف على حلٍّ يُحسّن الواقعَ المأزوم، إلى مسألة تسعى عن طريقها تلك الذات إلى الانتصار لأفكارها المختزلة أو المجتلبة عساها تتحسّن هي، بعبارة أخرى كاشفة: يتحول البحث من “محاولة دواء” واقع مُهشّم إلى “سبيل استشفاء” ذات مأزومة، في كلمة واحدة: تحولت المسألة من قضية فكرية إلى أزمة نفسية.
آية تلك الأزمة النفسية أنك تجد أصحاب هذا الفكر المستقيل الاختزالي، يتبنَوْن دائمًا مصفوفةَ أفكارٍ وردودَ أفعالٍ تُؤشر على تلك الأزمة النفسية التي تعصف بهم عصفًا من الداخل، منها على سبيل المثال: أسلوب التباكي، ثقافة العزلة والغرور، النرجسية المعرفية، الازدراء للواقع والحياة، فتراه متباهيًا مفتخرًا على غيره بقيم هذه التصورات وتلك الرؤى التي تقوم عليها نماذجه المختزلة، سواء أكانت هذه القيم المفتخر بها ذات طبيعة دينية أم كانت إنسانية، دون أن يُفكّر ولو للحظة في إتعاب نفسه بمطالعة الحياة في شموليتها ومتغيراتها، أو مراجعة نفسه وتصوراتها، أو مساءلة ذاته عن تمام وعيها بهذه القيم ومدى مطابقة أفعالها العملية لادّعاءاتها القيمية النظرية.
الأمانة والمسؤولية وانتفاء الأوهام
إن هذه الآفات تشل الطاقة على إبداع الحلول وتركيبها، وتُوقِف التأمل والتبصّر، وتوقع في العجز عن إنتاج معرفة مفيدة ومُغيّرة للواقع والذات، وهو ما يندفع عن صاحب العلم الرحيم بموجب قيم الأمانة وتحمل المسؤولية ودوام الإصغاء والتواضع، إذ إن تحمل المسؤولية بأمانة يدفعه من جهة إلى الاقتراب التام من الواقع والوعي بمطالبه الحقيقية، كما أن تواضعه ودوام إصغائه يجعله من جهة أخرى حريصًا على الاستفادة من الروافد الممكنة كلها لا على جهة الاستنساخ بقدر ما هي استفادة على جهة الاعتبار وعيًا منه بخصوصية سياقه، ومن ثم يكون المرء في مأمن من نفسه قبل الآخرين، إذ إن نفسه قد تُسخّره لتصوراتها المختزلة دون أن يشعر.
بإيجاز: كلما زاد حظ المرء من الإصغاء تعاظمت قدراته وتعددت إمكاناته، وابتعد عنه الغباء العقلي والنفسي.
مقالات ذات صلة:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا