التهمة قزم
“هل يصير دمى بين عينيك ماء؟
أتنسى ردائى الملطخ بالدماء
تلبس فوق دمائى ثيابًا مطرزة بالقصب؟”
أريد أن أعترف” همس بها وسط الضجيج المحيط به، لتستمر المسرحية المحاكة أمامه دون أن يعبأ به أحد
ليستجمع قواه ويكررها مرة أخرى ولكن هذه المرة بثبات وقوة ليخيم الصمت على قاعة المحاكمة، يلتفت إليه القاضى ليتأكد مما سمعته أذناه قبل أن يسأله مندهشًا: “أترغب بالاعتراف؟”، ليتمعن النظر إليهم جميعًا قبل أن يلقى بتصريحه الذى يعلم جيدًا صحته، بل يزيد على ذلك علمه بعلمهم مدى صحته، “نعم أنا مذنب لكونى قزمًا”، فهو يعلم أن تلك المحاكمة الهزلية التى يخضع لها ليست لجريمة قتل كما يُراد لها أن تظهر، بل هى لجريمته التى لا ذنب له فيها، بل ربما تكون تلك الجريمة التى يستنكرها الجميع هى سر كل فضيلة يتمتع بها، تلك الجريمة التى تتلخص فى كونه مختلفًا، كونه قزمًا، وقبل أن يضيع تأثير تصريحه يعاجلهم بتلك الحقيقة الأخرى التى يتغافلون عنها عمدًا، “لقد أنقذتكم، وأنقذت المدينة، وأنقذت كل حيواتكم التافهة”، صرخ بها وهو يعلم جيدًا أنها صرخة بلا جدوى ولكن ربما بها يطفىء بعض من تلك النيران التى تستعر فى أعماقه، “كنت أتمنى أن أكون ذلك الوحش الذى تظنونى إياه”، تلك العبارة التى أطلقتها أعماقه قبل لسانه لتمثل قمة الظلم الذى شعر به واقعًا عليه فى تلك اللحظة ممن وقف يومًا دفاعًا عنهم، “لن أعطى حياتى مقابل مقتل الملك، وأعرف أننى لن أحصل على أى عدالة هنا، لذا سأترك للآلهة تقرير مصيرى”، ليكن ختام ذلك المشهد الملحمى الذى أداه الممثل بيتر دينكليدج فى دور تايرن لانيستر، المشهد الذى لابد وأنه قد مس كل من شاهده، بل ربما ذهب البعض أبعد من ذلك فرآه تجسيدًا لمأساته الخاصة.
” انتوا الخونة حتى لو خاننى ظنى
خد مفاتيح سجنك وياك واترك لى وطنى
وطنى غير وطنك”
أسبوع كامل قضيته أشاهد هذا المشهد بين الحين والآخر، وأنا أسائل نفسى لم؟ ليظل ذلك السؤال يلح على حتى مللت من البحث عن إجابته، حتى جاء يوم السادس من يونيو ليذكرنا جميعًا بتلك الحادثة المشؤومة التى أيقظت الأمة من سباتها الطويل، يوم سقط خالد سعيد شهيدًا على يد مخالب الدولة الأمنية وأنيابها، لا لشىء سوى أنه ولد بمصر، ليعود لذاكرتى ذلك المشهد مصاحبًا لأعوام من التغيرات والتقلبات التى تراكمت فى ذهنى حتى هشمت بعضها البعض، فلم يعد هناك سوى أشباح لماضى ملىء بهتافات ودماء تروى الأرض لتزيد من تأجج نيران ثورة كادت تضع للظلم نهايته التى تليق به، وكأنى بى أرى خالد سعيد وأحمد حرارة وغيرهم ممن ذرفوا الدماء طواعية وقد أحاطت بهم العيون المحدقة من كل جانب فى قاعة محاكمة عتيقة، يسمعون عريضة اتهام وقد زلزلتهم المفاجأة، فهذا هو خالد سعيد وقد اتُهم بشرب البانجو وقد أصبح لقبه (شهيد البانجو)، والجناة ينظرون له شذرًا وقد انضمت لعريضة اتهامه فى الآونة الأخيرة كونه مؤامرة أمريكية إسرائيلية روسية إيرانية صينية حمساوية وإخوانية لإسقاط المحارب والبطل الوطنى مبارك، وكأنه كان يتمنى تلك القتلة، أو كأنه قد طالب بموته بغنيمة له، وها هى الثورة التى قامت ثأرًا له ولغيره من ضحايا الشرطة تتلقى الاتهام تلو الآخر، بل وكأن الطين يفتقد لمن يزيده بلة صارت التهم أكثر بلاهة، فالقتلى؟ قتل الثوار بعضهم البعض، قناص العيون؟ فيديو منزلى مفبرك، موقعة الجمل؟ ألم تعلم أيها الأحمق أن الجماعة وراء كل شىء، ماسبيرو، مجلس الوزراء والعباسية؟ يبدو أنك تنسى سريعًا، ألم نتفق على أن الجماعة هى الجانى!! يبدو أنك أحد عناصرها، وإلا فلم توجيه التهمة إلى ابرياء الوطن وأبطاله من الحكومة والمجلس العسكرى.
“للى خايفين على البلد لأحسن تموت
متخافوش الموت سكوت
وإحنا مش فالخطة أصلًا إن بكرة يكون سكوت”
هكذا ليمثل الخطاب الإعلامى تلك المحاكمة التى تعرض لها تايرن، ذلك الخطاب الذى يعطى مبررًا مناسبًا للتخاذل وجدته الغالبية مرضيًا بعد سنوات من المعاناة، وقد وجد الثوار والضحايا أنفسهم فى موضع اتهام من الشعب على ما أقترفه جلاديهم، وكأنى بى وقد رد تايرن على كل ما يجول فى صدور هؤلاء، فترى فى أعينهم الصامتة تلك الصرخة التى تدوى: “لقد أنقذنا تلك الدولة البائسة، لقد أنقذناكم، وأنقذنا حيواتكم ومستقبلكم”، أسرعان ما نسينا جثمان خالد سعيد وقد تشوه بكدمات الضرب المبرح، فكيف بنا ننسى هتافات التحرير التى أخرستها طلقات داخلية العادلى ومبارك، أم كيف بنا نمحى من ذاكرتنا صورة ذلك الشاب الشجاع وقد وقف أمام كلاب الداخلية لتعاجله برصاصة تصعد بروحه الطاهرة إلى بارئها وقد دوي صراخ الفتاة التى نقلت لنا ذلك المشهد حاملة صدمتها وذعرها لهول ما تراه، أم ترانا نتناسى تلك الجثامين التى وطأتها المدرعات، فلننحى الثورة جانبًا إذن، وليكن مبارك هو المظلوم، ولكن أكانت العبارة مؤامرة؟ أم كان هروب مالكها تحت أنظار الحكومة ورئيسها فوتوشوب؟ أكانت صخرة الدويقة مخططًا أمريكيًا إسرائيليًا صينيًا روسيًا خزعبليًا؟ أكاد أرى هؤلاء الذين اهتز بهم عرش الطغيان وقد ضجوا من المسرحية الهزلية الدائرة الآن، “نريد أن نعترف، نعم نريد أن نعترف بأننا مذنبين بالثورة”، فالإعلام الذى يرقص ليل نهار لثورة 30 يونيو لم يعد يتحمل ذكر ثورة 25 يناير ولو نفاقًا، ولم لا؟ ألم يلعنها معظمهم كل يوم؟ يرى ويا للعجب أن ثورة يناير المجيدة عملًا ارهابيًا مصاغ ببراعة بينما 30 يونيو هى الثورة على مبارك والإخوان، نعم نريد أن نعترف أليست الثورة هى الدافع الحقيقى وراء تلك اللعنات التى تنهال علينا؟ أليست زلزلة استقراركم المزعوم هى التى تلقى بنا فى غياهب المعتقلات وظلمات القبور؟
“قول للى روح علشان يرتاح
الراحة كل ما تستعجلها تتأخر”
“لسنا نحن الوحوش التى تظنوننا إياها”، لسنا تلك الوحوش التى خرقت كل قانون، لسنا تلك الوحوش التى أقامت الجدران العازلة بين الأشقاء، ولا التى أرسلت الغاز إلى الأعداء، نعلم أنكم تتمنون هذا، نعلم أنكم تظنون فى هذا راحتكم، ولكننا لسنا تلك الوحوش التى أضاعت مستقبل أولادكم، لسنا تلك الوحوش التى تفرغت لظلمكم، كنا نتمنى أن نكون كذلك، ربما لو كنا كذلك لرضينا بمصيركم الذين تساقوا إليه، ولكننا لسنا من أطعموكم المسرطن، ولا عالجناكم بالدم الملوث، ولا حرمناكم من أبسط حقوقكم فى مياه نقية، فاعذرونا إن لم نكن كذلك، وفى الختام “لن نعطى حياتنا ثمنًا لخضوعكم للذل، ونعرف أننا لن نحصل على أى عدالة لديكم، لذا فسنترك لله –جل وعلا- تقرير مصيرنا، نرجو رحمته ونسأله رضاه وأن يمنحنا القوة لنستمر”، نعم لن نقبل أن نقدم أرواحنا ثمنًا لركونكم إلى الظالم، سنقدمها طواعية سعيًا إلى العدل والحق، لن نرضى بأن تصبح جثاميننا مسرحًا لرقصاتكم المهللة للقاتل، ولا نسألكم أجرًا ولا شكورًا، بل نتوجه لرب العزة نقر له بتقصيرنا، ونسأله العون على القادم من الأيام، نعلم أن العدل لابد وأن ينتصر، ونرجو أن يرزقنا الله فيما تبقى لنا المساهمة فى تلك اللحظة، لعلنا نكفر بها عن تهاوننا وتخاذلنا حينًا وتعجلنا النصر حينًا، ونترك له الحكم علينا، محاكمة الحق بالحق.
“ومن تانى .. رخص دمى وسال فى شوارع التحرير
معدش بينفع التبرير
ورجعوا وقالوا تستاهل
لكن عارفين؟ .. أنا استاهل
علشان أنا كنت متساهل”
رابط مشهد المحاكمة:
http://www.youtube.com/watch?v=YFROZkA-EWg