مقالات

التجربة الجمالية وأخلاقيات الممارسة الكيميائية .. الجزء السادس

لعل أول أسباب تفاقم ظاهرة التلوث الكيميائي –إذ افترضنا خيرية الدافع– استخدام المواد الكيميائية قبل أن تُستكمل الأبحاث عليها وعلى آثارها (وهو سبب لا يعفي أصحاب رؤوس الأموال من اللهفة على الربح السريع، ولا يعفي الساسة والحكام في الوقت ذاته من النزوع إلى التفوق والسيطرة). والأمثلة على ذلك كثيرة ومتنوعة، فمنها مثلًا تطوير المخزون النووي قبل أن تُدرس طرق التخزين والتخلص من النفايات الناجمة عنه، ومنها كذلك الاستخدام المفرط لمادة “د. د. ت” (DDT) [ثنائي كلورو ثنائي فينيل ثلاثي كلورو إيثان]، فقد استُخدم هذا المبيد لإيقاف عدوى التيفوس بإيطاليا في الحرب العالمية الثانية، كما كان فعالًا بالدرجة ذاتها في القضاء على البعوض الحامل للملاريا في الشرق الأقصى، إلخ. غير أنه لم يلبث أن ظهر بتركيزات مرتفعة في الأسماك، وأيقن الجميع أنه يتراكم في الأنظمة الحية ويؤدي تدريجيًا إلى اختفاء بعض الأنواع، بل وتكيف البعض الآخر له، ففي سنة 1941 ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية أول أنواع القمل المقاومة للـ”د. د. ت”. وبعد مضي عشر سنوات في أثناء الحرب الكورية، كانت تلك الأنواع قد تكيفت له إلى درجة أتاحت عزل نوع منه لم يكن لينمو ويترعرع إلا إذا أضيف الـ”د. د. ت” إلى الوسط الذي يعيش فيه. وبطبيعة الحال، أدى نشوء آليات التكيف هذه إلى استخدام مقادير أكبر من مبيدات الهوام وتسويق منتجات جديدة منها. وقُدرت عندئذ الكميات التي كانت قد بُثت في أنحاء العالم بأكثر من مليون طن من الـ”د. د. ت”. وقد عرضت عالمة البيولوجيا والمتخصصة في الشؤون الطبيعية «راتشيل كارسون» (R. L. Carson 1907 – 1964) هذه المشكلة على الرأي العام العالمي في كتابها «الربيع الصامت» (Silent Spring) سنة 1962، ومن ثم أصبح الـ”د. د. ت” خارجًا على القانون، ووضعت قيود صارمة على استخدامه وغيره من المبيدات المثيلة في السبعينيات من القرن العشرين.

لا تقف الأمثلة على التلوث الكيميائي عند هذا الحد، فهناك مثلًا حادثة السائل الزيتي الأسود المحّمل بالمواد المسرطنة، الذي أسقطته على الأرض الأمطار الشديدة في «لوف كانال» “Love canal” (بشلالات نياجرا في نيويورك)، حيث المجتمع يقوم على مخزن نفايات كيميائية سامة. أما الزئبق الذي ألقى به مصنع للكيماويات في مصب أحد الأنهار في خليج «منياماتا» باليابان، فقد تسبب في شلل الآلاف وإصابتهم بدمار في المخ، كما مات مئات من السكان الذين تناولوا الأسماك المشبعة بالزئبق بمعدل يفوق معدله في مياه البحر بمقدار 500 ألف مرة. ثم يأتي المطر الحمضي الناجم عن تفاعل الأكاسيد الكبريتية والنيتروجينية مع بخار الماء المكون للسحب، ومن ثم تكوّن حمضي الكبريتيك والنيتريك وامتزاجهما بماء المطر، مما يتسبب في هلاك النباتات والأشجار بالإضافة إلى تآكل المباني والآثار، ومما هو جدير بالذكر أن حموضة الأمطار وصلت في بعض المناطق حدًا ينذر بالخطر الشديد، إذ سُجلت أمطار تقارب في حموضتها حمضية البطاريات السائلة أو عصير الليمون! وهناك أخيرًا –وليس أخرًا– مشكلة ارتفاع درجة الحرارة في أنحاء العالم جميعها، التي تتسبب فيها الغازات المتصاعدة إلى الغلاف الجوي من تأثير النشاط الإنساني والحيواني، وبالتحديد غاز ثاني أكسيد الكربون وغاز الميثان، وهي تعكس الإشعاعات التي تهرب من الأرض لتعود ثانية على شكل حرارة، وتسمى هذه الظاهرة أحيانًا باسم “تأثير الصوبة الزجاجية”.

على الإجمال، بلغ عدد المواد الكيميائية المستخدمة بصفة اعتيادية حتى نهاية القرن العشرين ما يقرب من 75 ألف مادة، وهو عدد يزداد كل سنة بما يقرب من ألف مادة جديدة. وكثير من هذه المواد ذو طابع سام. ومن بين هذا العدد، تصنف وكالة حماية البيئة الأمريكية –وكذلك منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية– أكثر من 35.000 مادة على أنها ضارة بصحة الإنسان، وذلك إما بصفة قطعية وإما على وجه الاحتمال. وعدد من هذه المواد –مثل الزرنيخ والكادميوم وبعض المركبات الكيميائية العضوية كالطولوين ورابع كلوريد الكربون– يُعد من المواد المسرطنة، والبعض الآخر –مثل الزئبق– يصيب المورثات (الجينات/Genes) –المسؤولة عن نقل الصفات الوراثية في النسل– بالضرر البالغ المتمثل في حدوث طفرات وراثية. كما أن كثيرًا من هذه النفايات السامة يتسبب في الإصابة بأضرار صحية في الدماغ والعظام (كما هي الحال في نفايات النحاس والرصاص والزئبق) أو في الكُلى (كما هو الأمر مع الكادميوم) بالإضافة إلى الإضرار بالجهاز العصبي والإصابة بعديد من الأمراض الموهنة أو المشوهة، إلخ.

أما عن إنتاج وتخزين الأسلحة الكيميائية فحدث ولا حرج، فلقد باتت هذه الأسلحة بمثابة الملاذ الدفاعي للضعفاء في مواجهة القوى النووية التقليدية أو الصاعدة، وأصبح التسابق على امتلاكها ظاهرة “لا أخلاقية” يوصم بها المجتمع المعاصر على امتداده واختلاف أهدافه وتوجهاته!

تُرى هل الابتكارات الكيميائية هي المسؤولة وحدها عن مثل تلك الظواهر الخطيرة من التلوث الكيميائي؟ أم أن طريقة استخدامها –أو سوء استخدامها بالأحرى– هو المسؤول؟ لا شك أن هذه الابتكارات الكيميائية –بما حققته من تحسينات في حياتنا المعاصرة– باتت تتسم بالضرورة، فلا أحد يرغب في التخلي عنها بمثل هذه البساطة التي ينادي بها بعض دعاة التنظير الأخلاقي، ومن ثم يذهب البعض الآخر إلى أنه من الأسهل تعديل التكنولوجيا بدلًا من المناداة بتعديل البشر، أعني توجيه البحث الكيميائي نحو علاج الأضرار التي تسبب فيها للإنسان والبيئة. لكن هل بإمكاننا تعديل التكنولوجيا دون نظام أخلاقي يحكم نوازع البشر؟ وإذا كانت الإجابة بالنفي، فهل من الممكن تعلم الفضيلة وبثها في النفوس وفقًا لمقولة «سقراط»: الفضيلة علم والرذيلة جهل؟ وما هي الحقيقة في مسألة الحياد العلمي والتكنولوجي؟ أليس ثمة تناقض بين قولنا بنسبية الأخلاق العلمية وكونها جزءًا من النسق الأخلاقي الملزم للبشر بصفة عامة؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

يتبع…

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

الجزء الثاني من المقال

الجزء الثالث من المقال

الجزء الرابع من المقال

الجزء الخامس من المقال

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

 

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية