إذا كنا عرفنا مما مضى أن “القراءات” تتصارع إزاء “مجالات الوجود” المختلفة، وأن “الرموز” هي وسيلة الأفراد للتعبير المختصر عن موقفهم إزاء هذه “القراءات المتصارعة”، فإنني أطمح في هذه المرة إلى بيان أن بعض هذه “الرموز”، لا يتوقف دورها على مجرد الإعلام المختصر بقراءة صاحبها المختارة،
بل إن هذه الرموز تتجاوز دور الإعلام لتلعب دور الغواية لمتلقيها من خلال طبيعة “مزدوجة” أو “مموّهة”، سأفصل فيها القول، فتسعى هذه الرموز بتلك الطبيعة المزدوجة إلى حجب دورها الخفي في “حرب القراءات المتصارعة”، فتبدو هذه الرموز –في ظاهرها– أنها رحمة للجميع، إلا أنها –في باطنها– تعمل على تمهيد الأرض لتصورات أصحابها وقراءتهم.
صور التعبير عن القيم والقناعات من خلال الرموز
هذا اللون من “الرموز” هو ما قصدته بالأساس حينما سمّيتُ هذه الكلمات بـ”الحرب الرمزية”، إذ إن هذه “الطبيعة المزدوجة” لتلك الرموز –على نحو ما سأفصل– تجعلها تجذب الناس إلى صفها، ولكن لا لتنفعهم كما يدّعي “ظاهرُها”،
بل لِتمتطيَهم من أجل قضاء مآربها الخاصة كما يقضي بذلك “باطنها”، ولذلك فهي في تصوري أخطر أنواع الرموز، لكونها محتجِبةً في أدائها لدورها شأن حروب زماننا، وما يحتجب يكون أقوى وأشد مما يظهر.
وبيان ذلك أنه إذا كانت الرموز وسيلة الإنسان للتعبير عن قناعاته وقيمه، فإننا ينبغي أن نعرف أن هذه الرموز في تعبيرها عن تلك القناعات والقيم، تأخذ –من حيث ظهور هذه القناعات والقيم وخفاؤها– صورتين:
الأولى: علاقة مباشرة
ظاهرة، حيث تكون العلاقة بين الرمز وما وراءه من قناعات وقيم ومعان، علاقة مباشرة، الأمر الذي يعني أننا –مع هذه الصورة– إزاء رمز “مباشر”، يُجاهر بمضمونه من قيم ومعانٍ، ومثال ذلك: الأحاديث والخطابات العلمية أو الفكرية التي يُصرّح فيها أصحابها بأفكارهم وقناعاتهم،
وهذه الصورة هي الأقل تداولا بين الناس، لصرامة هذا اللون من الخطاب وتعاليه، إذ إنه يعتمد على الجدل والتدليل العقلي والحجج المنطقية، وهي أمور في تشعباتها غالبا ما ينفضُّ الناسُ عنها، فلا يبقى لك منهم مقتنع، أو على الأقل متفق.
الثانية: علاقة خفية غير مباشرة
خفية، وهذه الصورة هي الأكثر تداولا بين الناس، وهي ما تمثل مقصدي وموضوع اهتمامي هنا، حيث يكون التعبير فيها عن تلك القناعات والأفكار غير مباشر أو بعبارة أدق “متستر”، وذلك من خلال استخدام “رموز” تجمع في القيم التي تقف وراءها، بين “المتفق عليه” و”المختلف فيه” بين الناس.
أوجه المعاني والقيم التي تحملها العلاقة غير المباشرة
ومن ثم فالمعاني والقيم التي تحملها هذه الصورة الثانية من الرموز، ذات وجهين:
الأول: وجه ظاهر عام
إيجابي، عام، مباشر، ظاهر، لا خلاف على فائدته للجميع، مثال ذلك: الداعية في كلامه عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو الشاعر في شاعريته وما تحمله من قيم أدبية ومعان مجردة، والمتخصص في حديثه عن معارفه وعلومه التي يملكها،
فلا خلاف بين الناس على تميز هذه المعاني والقيم التي تقف وراء هؤلاء الأشخاص بوصفهم رموزا، إلا أن هذه القيم والمعاني المتفق على نفعها، ليست هي الوجه الوحيد عند هذه الرموز، إذ إن ثمة وجها أعمق لتلك القيم والمعاني، لا بد أن نقف عليه، وهو الوجه التالي.
الثاني: وجه غير ظاهر خاص
سلبي، سامٌّ، غير مباشر، مضمر، يأتي خدمةً لوجهة نظر معينة، ودعما لقراءة معينة من القراءات المتصارعة، مثال ذلك:
(أ) الداعية حينما يوظف ما تتمتع به مفردات خطابه الديني من مكانة مقدسة في نفوس الناس، لدعم قراءة من القراءات المتصارعة إزاء مجالات وجودنا من: سياسة أو اجتماع أو علم.
(ب) الشاعر حينما يوظف بلاغته لدعم وجهة على حساب وجهة، أو رؤية على حساب أخرى.
(ج) المتخصص حينما يستغل مكانته الرمزية المرموقة في المجتمع ليدعم فصيلا على حساب فصيل آخر.
الظاهر والباطن
الأمر الذي يعني أننا –مع الداعية والشاعر والعالم المتخصص– بإزاء رمز “مركب” و”مُموّه” –بكسر الواو مرةً وفتحها أخرى، والمقصود بـ”تركيبيته”: أنه يمكن أن يجمع في قيمه بين: الغث والثمين، والمقصود بـ”تمويهه”: أنه رمز له “منطوق ظاهر” يمكن أن يخالف “منطقه المضمر”،
أما “منطوقه الظاهر” فهو أنه ينشد الخير للجميع، في حين أن “منطقه المضمر” أنه يعمل –في العمق– لتجنيد الجميع تحت رايته وضمن فريقه، خدمةً لأغراض وتصورات وتطلعات ذاتية تخصُّه هو في المقام الأول أكثر مما تنفع الآخرين.
لماذا تكون الرموز غير المباشرة أكثر فاعلية؟
ولكن هذا التجنيد للآخرين يحدث بشكل غير مباشر، وهذا هو سر نجاح هذا النوع من الرموز، لأنه بالوجه الإيجابي من وجهَيْها يفعل أمرين:
(أ) يُغطي على الوجه السلبي، فيتقي بتلك التغطية الدخول في حالة الجدل والخلاف التي يسببها هذا الوجه الخلافي، وما يترتب عليه من جدل وبرهان عقلي، ومن ثم يَضْعُفُ قبوله عند الناس.
(ب) يُسرّب للمتلقي الذي –عادةً – لا يحسن الفصل والوصل، أو التفريق بين الغث والثمين، قبولَ الوجه السلبي الذي هو محل اختلاف بين الناس، لأن قبول المتلقي للإيجابي يضمن للوجه السلبي اختراق عقل المتلقي.
ومعنى المعنى أنه إذا كان هذا النوع من “الرموز المموّهة” بوجهه الظاهر الأول يُكوّن لصاحبه سلطة رمزية عند متلقيه، إذ إنه يسعى بهذا الوجه إلى إفادتهم، فهو بوجهه المضمر الثاني يسعى إلى الاستثمار في تلك السلطة واللعب بها لصالحه، إذ إنه يسعى بهذا الوجه إلى استرقاق هؤلاء المتلقين، بالاستيلاء على عقولهم، والتسلط على مشاعرهم.
بعبارة مختصرة:
بالأول يُغْرِيك وبالثاني يُرْدِيك، بالأول يُؤجج عاطفتك الدينية أو ذائقتك الأدبية أو رؤاك العقلية وبالثاني يسرق ولاءك الفكري وانتماءك الداخلي، بالأول يشغلك وبالثاني يسرقك، بالأول يجذبك وبالثاني يُشكّلك، بالأول يُخدّرك وبالثاني يَسْلبك.
وبعد فقد يقول قائل: إنه لا يوجد أحدٌ يُعرَّى من هذا الذي تقوله، حتى أنت، فماذا تقول؟!
هذا ما سيكون موضوع الكلمة القادمة.
اقرأ أيضاً: