مقالات

التكرار الأبدي للغطرسة البشرية .. الجزء الرابع

فعل التفكير بين الإنسان والآلة الذكية

إن حقيقة أن أنظمة الذكاء الاصطناعي تستمد مخرجاتها من مجموعات بيانات ضخمة تشير إلى أن تلك المخرجات ستكون دائمًا مشتقة، تضعنا في منتصف الطريق، وتُعطينا المتوسط الحسابي عادةً! وعلى هذا النحو، من الطبيعي أن تجد المحادثة مع «تشات جي بي تي» كأنها محاكاة مصقولة وفعالة على نحو ملحوظ للتحدث مع أكثر شخص مُمل قابلته في حياتك، ذلك أن نماذجك عندما تبني نسخًا طبق الأصل من الإنتاج الإبداعي البشري استنادًا إلى بيانات تفوق في حجمها ما عالجه أي فرد بشري على الإطلاق في تاريخ العالم، فمن المنطقي أن يبدو ما تحصل عليه في النهاية عامًا! إذا سألت مثلًا أحد المخرجين الطموحين عن أكثر من أثَّر عليه، وأجاب: كل صانع أفلام عاش على الإطلاق، فلن يكون ذلك في الحقيقة دليلًا على أنه مُخرج مُبدع، بل على أن عمله يفتقر إلى الإبداع الحقيقي!

جزءٌ من المشكلة الكامنة هنا احتمال أن هذه الأنظمة، بقدر ما تتمتع به من قدرة، قد تثبت قوتها الهائلة إلى حد معين، ثم تصل فجأة إلى نقطة توقف صعبة، وهو حد لما يمكن أن يفعله هذا النوع من التكنولوجيا. اقترح عالم الحاسوب الأمريكي «بيتر نورفيج» (Peter Norvig)، الذي كان يعمل مديرًا للأبحاث في جوجل، أن التقدم في هذا المجال يمكن أن يكون في كثير من الأحيان مقاربًا (Asymptotic)، بمعنى أنه قد يستمر مشروع معين في الاتجاه الصحيح، لكنه في النهاية يثبت أنه غير قادر على إغلاق الفجوة التي تحول دون النجاح الحقيقي. لقد أصبحت هذه الأنظمة أكثر فائدة وإبهارًا بتقديم مزيد من البيانات والمعلومات إليها، ويبقى أن نرى ما إذا كان من الممكن تحقيق قفزات بين الأجيال المختلفة منها دون قفزة مصاحبة في العلوم المعرفية.

إن جوهر الاعتراض إزاء الادعاء بأن هذه الأنظمة تشكل ذكاءً اصطناعيًا شبيهًا بالإنسان– حقيقة أن العقول البشرية تعمل على كميات أقل بكثير من المعلومات، فالعقل البشري ليس محركًا إحصائيًا بطيئًا لمطابقة الأنماط، والتهام مئات التيرابايت (Terabytes) من البيانات، واستقراء الاستجابة التحادثية الأكثر ترجيحًا أو الإجابة الأكثر ترجيحًا عن سؤال علمي، كما جادل لغويون متخصصون مثل «تشومسكي» و«إيان روبرتس» (Ian Roberts) و«جيفري واتمول» (Jeffrey Watumull)، العقل مقيد بقواعد (Rule-Bound)، وهذه القواعد موجودة قبل أن نبلغ من العمر ما يكفي لتجميع كمية كبيرة من البيانات. والحق أن هذه الملاحظة، «نقص الحافز» (Poverty of the Stimulus)، القائلة أن المعلومات والبيانات والجُمل التي يكتسبها طفل صغير في بيئته اللغوية لا يمكن أن تفسر القدرات المعرفية لهذا الطفل، هي واحدة من المبادئ الأساسية لعلم اللغة الحديث. يمكن لطفل يبلغ من العمر عامين أن يسير في الشارع وهو يتمتع بفهم أكبر بكثير للبيئة المباشرة من سيارة تيسلا ذاتية القيادة، دون إنفاق مليارات الدولارات، وفرق من المهندسين، وكم كبير من بيانات التدريب!

في نيكاراجوا، إبان الثمانينيات من القرن العشرين، طوَّر بضع مئات من الأطفال الصُم في المدارس الحكومية عفويًا لغة الإشارة النيكاراجوية (Nicaraguan Sign Language). لقد ابتكروا لغة جديدة، على الرغم من أنهم كانوا جميعًا محرومين لغويًا، وكان معظمهم من خلفيات فقيرة، وكان بعضهم يعاني إعاقات في النمو والإدراك، ما يُعد دليلًا على أن القواعد البشرية نظامٌ معقد على نحو مستحيل، لدرجة أنه يمكن للمرء أن يجادل بأننا لم نرسم خريطة كاملة لأي منها على الإطلاق. ومع ذلك، فقد أنتج هؤلاء الأطفال عفويًا قواعد نحوية بشرية فعالة! هذه هي قوة العقل البشري، وهي تلك القوة التي يتجاهلها أنصار الذكاء الاصطناعي بصفة روتينية، وهم مُصرون وعازمون على تجاهلها. والاعتراف بهذه القوة من شأنه أن يجعلهم يبدون أقل شبهًا بالآلهة، أقل غطرسةً وثقةً بأنهم قد أمسكوا بنهايات المعرفة!

السؤال الأوسع هو ما إذا كان أي شيء غير الدماغ العضوي يمكنه التفكير مثلما يفعل الدماغ العضوي. إن جهلنا المستمر حتى فيما يتعلق بالمسائل الأساسية للإدراك يعيق هذا النقاش، وفي بعض الأحيان يُستفاد من هذا الجهل ضد ادعاءات الذكاء الاصطناعي القوية، لكن في بعض الأحيان لصالحه، لا يمكننا التأكد حقًا من أن أنظمة التعلم الآلي لا تفكر بطريقة تفكير العقول البشرية نفسها لأننا لا نعرف كيف تفكر العقول البشرية!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لماذا ناضل علم الإدراك لعدة قرون لفهم كيفية عمل التفكير؟ لأن التفكير نشأ منذ ما يقرب من أربعة مليارات سنة من التطور، لقد استحوذت العمليات التكرارية للانتخاب الطبيعي (بلغة داروين) على ثمانين بالمائة من تاريخ هذا الكوكب لتطوير نظام يمكنه فهم كل شيء موجود في العالم، بما في ذلك نفسه، وهناك مائة تريليون وصلة متشابكة في دماغ الإنسان، فهل من الصعب حقًا تصديق أننا ربما لم نتمكن من تكرار قدراتها في سبعين عامًا من المحاولة، في شكلٍ مادي مختلف تمامًا؟

كتب «يورغن فيسدال» (Jørgen Veisdal) (الأستاذ بالجامعة النرويجية للعلوم والتكنولوجيا) ذات مرة يقول: «لقد شارك الحاضرون في مؤتمر دارتموث سنة 1956 في اعتقاد محدد مشترك؛ أن فعل التفكير ليس شيئًا فريدًا سواء بالنسبة إلى البشر أو حتى الكائنات البيولوجية. بدلًا من ذلك، اعتقدوا أن الحوسبة (Computation) ظاهرة يمكن استنتاجها صوريًا، ويمكن فهمها علميًا، وأن أفضل أداة غير بشرية لعمل ذلك الحاسوب الرقمي (Digital Computer). وهكذا فإن الاعتقاد الأكثر جوهرية وبديهية في الذكاء الاصطناعي، وربما الأكثر خطأً، قد دخل إلى الميدان منذ بدايته».

أخيرًا لعل بوسعنا أن نقول: إن هذه الأدوات الجديدة تُعد إنجازات رائعة، وعندما تُوظَّف وفقًا لمهامها الصحيحة، فإن لديها القدرة على أن تكون مفيدة للغاية وتحولية، وكما قال كثيرون، هناك احتمال أن تجعل كثرةً من الوظائف قد عفا عليها الزمن، وربما أدت إلى خلق وظائف جديدة، كما أنها ممتعة للعب بها. إن كونها تقنيات قوية ليس موضع شك، ما يستحق التساؤل: لماذا هذا الثناء كله غير كافٍ؟ ولماذا ثبت أن الاستجابة لهذه اللحظة الجديدة في الذكاء الاصطناعي كانت محمومة للغاية؟ هذه الأدوات بمنزلة انتصارات للهندسة، إنها أدوات بشرية عادية، لكنها قد تكون أدوات فعالة للغاية، فلماذا يجد كثيرون أن هذا غير مُرضٍ؟ لماذا يطالبون بمزيد؟ أليست هي الغطرسة البشرية تُعيد نفسها، وستظل؟!

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

الجزء الثاني من المقال

الجزء الثالث من المقال

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية