التفكير المستقيم
من الكتب الممتعة والمفيدة كتاب “التفكير المستقيم والتفكير الأعوج”، لعالم لنفس الإنجليزي الشهير “روبرت هنري ثاولس”، يتناول فيه شيئًا مهمًا للغاية في التعامل مع الآخرين أو محاورتهم أو الحكم عليهم.
يبدو أننا الآن في مصر والبلاد العربية عمومًا في حاجة ملحة لقراءة هذا الكتاب، نظرًا لاحتدام الجدل بيننا واتسامه بالانفعال، وخروجه كثيرًا عن الموضوعية وآداب الحوار وسلامة النية.
يقع الكتاب في أربعة عشر فصلًا، وفي مائتين وعشرين صفحة، ويتحدث كاتبه عن طرق مختلفة في استخدام اللغة، والفرق بين كلمة “بعض” وكلمة “كل”، وأساليب الغش في النقاش، والسفسطة أو المغالطات المنطقية، والفرق بين الكلمات من جهة والحقائق أو الأمور الواقعية من جهة، وسوء استعمال التفكير النظري، والتلاعب بالكلمات.
أيضًا يتحدث عن معضلات التعريف وبعض الصعوبات التي تعترضه، واستخدام الحيل في الإيحاء من أجل تغيير عقيدة الشخص الذي تخاطبه، والتحيز، وتسطيح الفكرة، ومساوئ القياس واستخدام المقارنة غير العادلة للتأثير في الآخر، يمر بك المؤلف بكل هذا ليصل معك في النهاية إلى التفكير المستقيم.
الحياد العاطفي
يقول المؤلف: “إذا أردت أن تحسم حوارًا لصالحك فعليك ألا تذهب بعيدًا، فلا تقل مثلًا إن أهل المدينة الفلانية كلهم بخلاء، لأنه سيسهل تكذيبك عندئذ بمجرد إثبات أن أحدهم غير بخيل، والعكس صحيح، فإذا رد محاورك قائلًا: “بل كلهم كرام”، فيسهل أيضًا تكذيبه بنفس الطريقة، فالأحكام المطلقة دائمًا مخطئة”.
ينصحنا روبرت هنرى ثاولس بألا نحمل الحقائق بالعواطف، وضرب مثالًا بذلك لحصان تنحدر أصوله لأنواع عديدة من أفخر السلالات، سيرى البعض أنه جواد أصيل لانحدار نسله من هذه السلالات النادرة، بينما يصف غيره نفس الجواد بأنه “نغل”، يعنى أنه لا أصل له بل مشتت الأصول.
لقد ذكر كلا الشخصين نفس الحقيقة، لكن الأول حمّلها بعاطفة تجعلك تحترم الجواد، والآخر حمّلها بعاطفة تجعلك تنفر منه، ولهذا وجب تحييد العاطفة عند إصدار الأحكام، فهذا يجعلنا أقرب إلى الموضوعية ومن ثم إلى الإنصاف.
ضرب المؤلف مثلًا آخر وهو الرجل الأسود، يصفه البعض بالرجل الأسود ويصفه الآخر بالزنجي أو البربري، الوصف الأول لم يبد أي احتقار لسواد البشرة، بينما أوحى الوصف الثاني بالاحتقار لأنه جاء محمّلًا بعاطفة سلبية، قد يكون سببها الأفكار الانطباعية أو الأحكام المسبقة.
البعد عن المراوغة في الحوار
يضرب مثلًا آخر، حيلة المراوغة في الحوار، فيقول: “تظهر المراوغة عندما يحوِّل المناقش الحديث بالإتيان بقضية لا تثبت القضية الأولى، إلا أنه واثق منها أكثر من السابقة، مثل قوله إن “قوانين التمييز العنصري في جنوب إفريقيا فيها ظلم على السكان السود” فيرد عليه آخر قائلًا : “هذا كذب، فحكومة جنوب إفريقيا تنفق كثيرًا من المال لإنشاء المساكن للأفارقة”، هكذا يراوغ المحاور صاحبه ويذهب به لبعيد عن نقطة الحوار، فظلم القوانين ليس له علاقة بإنفاق المال لبناء المساكن. فإذا استخدم هذا البرهان، سمي برهانه برهانًا غير منطقي”.
من المراوغة أيضًا التعلق بنقطة هامشية ذكرها الخصم أثناء بيان حجته، فيلجأ المراوغ إلى تفنيدها موحيًا أنه فند حجة الخصم كلها. أو يمكن أن يتمثل في التعليق على خطأ موجود عند الخصم إلا أنه لا يمت بصلة للموضوع، كأن يكون الجدال حول عدالة ملك من الملوك، فيرد الطرف الآخر بأن التاريخ الذي ذكره خصمه لموت ذلك الملك خاطئ، ويوحي في رده وكأنه رد حجة خصمه كلها.
تعرف على: تعريف التفكير في علم النفس وأنواعه وخصائصه
تعريف المصطلحات
يضيف المؤلف: “بعض الكلمات واضحة، فهي تحمل معنى واحدًا في الاستخدام اليومي، مثل كلمة إنسان، وبعضها يحتاج إلى تعريفه قبل أن تبدأ باستخدامه، لأنه يحمل أكثر من معنى محتمل لنفس الجملة، مثل كلمة الديمقراطية، والإرهاب، والحرية.
من الضروري للمفكر أن يحدد معاني مصطلحاته بدقة دون لبس أو غموض، حتى لا يلتبس عليه الأمر فيستخدم نفس الكلمة بمعنى آخر في نفس الخطاب.
عادة استعمال الكلمات التي لها معنيان أو أكثر ليس من السهل التمييز بينها قد يؤدي بنا إلى كثير من التفكير الخاطئ”.
تجنب التلاعب بالكلمات
ثمة شكل آخر من نفس هذا المرض أسوأ من الشكل الأول بكثير، وهو استعمال كلمة ليس لها معنى واضح، وإنما لها في دلالتها ميل عام في اتجاه معين، ونحن بمثل هذا الاستعمال نكون مذنبين بالغموض، وهو عيب يستحيل معه أي تفكير دقيق وأية مباحثة معقولة، مثل كلمة “روحيّ” فليس لها واقع محسوس يشار إليه بالإصبع، وعلى الناس أن ترجع إلى المعاجم اللغوية حتى لا تكثر الكلمات الغامضة بالنسبة لهم.
يسعى الكتاب باختصار إلى ترسيخ فكر الموضوعية في مناقشة الأشياء، لا فكر الكراهية المسبقة والتربص والتعصب واتباع الهوى، الذي يستجلب الغش والمراوغة في الحوار من أجل حسمه بطرق غير عادلة.
اقرأ أيضاً: هل التفكير الزائد مرض نفسي؟
اقرأ أيضاً: فقه الحوار في زمن التناطح الثقافي
اقرأ أيضاً: العقل والتفكير
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا