مقالات

القيم الخُلُقية وصناعة المعرفة العلمية .. الجزء الرابع

ممارسات علمية غير رحيمة - التفكير الاختزالي

سأستعرض في هذه الكلمة وما يتبعها، عددًا من الممارسات العلمية غير الرحيمة، تلك الممارسات التي يكون ظاهرها الرحمة على مستوى الفكر والكلام النظري، وباطنها العذاب على مستوى التطبيق والواقع العملي.

وسبب ذلك العذاب الناجم عنها أنها تُحدث بين الواقع والأفكار قطيعةً، لعجز تلك الأفكار –بسبب مرضها الاختزالي– عن تسيير ذلك الواقع، ومن ثم يُترك الواقعُ فريسةً للفوضى، وتبقى الأفكارُ في حالة جمود، وينفتح على الذات الباحثة عددٌ من الأفكار المريضة، إذ إن الوهم يُغري بالوهم، فيتوهم صاحبها العلمية بيد أنها علمية كسيحة متهافتة، ومن هذه الممارسات العلمية غير الرحيمة:

التفكير الاختزالي

الذي يقع فيه الباحث لأمرين: أحدهما يتعلق بالباحث، والثاني يتعلق بموضوعه.

الأول: الباحث

إذ إن الباحث يقع في تلك الاختزالية بسبب أمرينِ:

  • طبيعته الضعيفة: التي لا تقوى على مواجهة الأشياء في شموليتها، ومن ثم يلجأ إلى تجزئة الموضوع المدروس.
  • منطقُ البحث الذي يفرض على الباحث أن يتخذ من الأجزاء طريقًا لمعرفة الكل، إعمالًا لمبدأ علمي قرّره العلماء وهو: “أن معرفة ذات الشيء الثابتة ينبغي أن تكون أصلًا لمعرفة حاله المتنقلة”.

الثاني: موضوع البحث

إن تجزئة الموضوع المدروس بوصفها محصلة ما سبق تقريره من ضعف قوى الباحث عن مواجهة الواقع في شموليته، وإلزام منطق البحث له، تتعارض مع واقع الشيء المدروس.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وبيان ذلك أن الناظر في شيء ما هو ساعٍ بأدوات ومفاهيم نظرية إلى إدراك كنه هذا الشيء الذي ينظر فيه وإدراك تقلباته وحركته الواقعية، بيد أن النظر حتى ينجز هذا لا محيص له عن تثبيت هذا المدرك واختزاله في بعض جوانبه، إذ إنه لا طاقة لقدرات الإنسان على إدراك المتحرك في حركته وشمولية تحققه.

بإيجاز: النظر يقتضي التسكين وجزئية الرؤية وهو ما يتنافى مع واقعية الشيء المدرك في حركته وشمولية تحققه، وهو الأمر الذي يجعل هذا النظر بعُدّته النظرية كلها فرضيةً مسوقةً عن الواقع أكثر منه تعبيرًا عن حقيقته.

لنخلص من هذا إلى قانون، وهو: كلما أوغل النظر في شحذ آلته البحثية بإيغاله في تجريد المفاهيم وصياغة الحدود واصطناعية لغته كان أبعد عن تمثيل واقعه الذي انطلق منه تمثيلًا حقيقيًا.

إن النتيجة المنتهى إليها سلفًا تتهدد الباحث بالوقوع في قبضة الغفلة عن أثر الكل في تغيير تلك المعرفة المحصلة عن ذات الشيء = الجزء، فينتهي الأمر باختصار الواقع المعقد المتشابك في بعد من أبعاده، هو محصلة دراسة ذلك الجزء، أي أننا ننتهي إلى علم خادع يضر ولا ينفع.

العلم الرحيم وانتفاء الاختزالية

إن هذا السابق رصده كله من إشكال ينتفي عن صاحب (العلم الرحيم) بموجب (قيمة الأمانة) التي تحمله حملًا على معرفة أن الأمور تنشأ متساندة مترابطة، وأنها وإنْ دُرست جزئيًا –لأغراض تحليلية– إلا أن نتائج هذه الدراسة الجزئية لا بد أن تعاد معالجتها في ضوء الدراسة الشمولية التركيبية الواقعية، إذ إن الكلمة الأخيرة في قضية جزئية لا تُحدِّدها محض نتائج الدراسة الجزئية بقدر ما تتحكم فيها الجهةُ الأَوْلَى بالاعتبار وفقًا للمنظور الشمولي التركيبي.

وهذا أمر قد قرره العلماء العارفون على أكثر من صعيد معرفي، من ذلك على سبيل المثال في النحو واللغة: قول ابن جني: “التركيب يُحدث للمُركّبينِ حُكمًا مُسْتأنفًا، ويخلقه خَلْقًا”، المحتسب،2/312، وقال ابن فرخان أيضًا: “الحكم قد تغيّر بالتركيب”، المستوفى، 1/21، وقال ابن هشام: “قد يكون للشيء إعراب إذا كان وحده، فإذا اتصل به شيء آخر تغير إعرابه”، مغني اللبيب، 6/621، وهو ما يعني أن لحظ أثر الكل على الجزء أمر لا محيص عنه لمن أراد لعلمه أن تتصادق نتائجه العملية مع مقدماته النظرية لا أن تتهادم، وللحديث بقية.

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

الجزء الثاني من المقال

الجزء الثالث من المقال

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د . أحمد عزت عيسى

مدرس بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، قسم النحو والصرف والعروض