منهجية صناعة الرمز والعالم
“لا يكن همّ أحدكم آخر السورة”، هكذا كان يعلم عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه– أصحابه رضي الله عنهم، فالعلم النافع لا نهاية له، ونحن بني آدم ما أوتينا من العلم إلا قليلًا، وما أنت راءٍ في هذه الدنيا كله من العلم من ذلكم القليل، وكلما قلبت ناظريك يمنة ويسرة متدبرًا متفحصًا لاقيت مزيدًا ومزيدًا من القليل، بخاصة إن كنت ممن يعمل بعلمه، فتجد من الله توفيقًا لعلم نافع جديد.
مما هو مستقر لدى الأجيال المتعاقبة التي تنشأ على ما كان عوده أبوه، أن التعليم والتعلم مرحلة وتنتهي، فالابتدائية مرحلة سهلة نوعًا ما عند عموم الناس، وتبدأ الصعوبات مع الإعدادية وشهادتها، ثم الثانوية العامة وبعبعها، والختام في الجامعة حيث عنق الزجاجة كما يتوهم أكثر الناس، ولست في مجال استطراد مراحل التعليم العام والفني وغيره، إنما أضرب مثالًا يتضح به شيء من المقال.
فإذا ما جاوزت عنق الزجاجة تلك، فقد رُفع عنك قلم التعلم، وصار من حقك أن توجه الناس كما يحلو لك، فلقد وصل قطار التعليم محطته الأخيرة، وآن للمسافرين أن يغادروا: حمد الله على السلامة!
التعليم رحلة لا تنتهي
هذه سطور رواية تصلح أن تكون عملًا تراجيديًا، أو مسرحية في الكوميديا السوداء، لكن الواقع شديد المرارة في حلوق الذين أوتوا العلم، أما القادم فيأتيك بالأنباء من لم تزود.
حتى بعض من يزعمون أن الحياة قد علمتهم شيئًا، فلا ضابط لعلمهم سوى ثقافتهم ونشأتهم وخبراتهم المحدودة حتى وإن عمروا ما عمروا، فخبراتهم محدودة بسني عمرهم التي بين الستين والسبعين وكذلك في حدود بيئاتهم، لم يجمعوا علم العلماء، ولا سنة الأولين، وأنّى لهم وقد فارقوا قطار التعليم أحوج ما يكونون إليه؟
من يخبر قومي أنهم إلى العلم النافع أحوج منهم لكثير من المطاعم والمشارب والملاهي؟ فأنت في حاجة للعلم بعدد أنفاسك، أما الطعام والشراب فيكفيك لقيمات تقمن صلبك.
من يخبر قومي أن الحياة دقائق وثوان؟ وكلما مرت ثانية بغير علم نافع أو على غير هدى فهي خسارة وأي خسارة، فهي لا تعود أبدًا.
من يخبر قومي أن التعليم لا ينتهي؟ فلا يكن همك التخرج من الجامعة، أو الحصول على شهادة تلقيها في صندوق الذكريات، فلا استفدت من حصولك على الشهادة علمًا، ولا أنت تمتهن مهنة لها علاقة بشهادتك.
دور التربويين في صناعة الرموز
وأخطر من ذلك، تلك القناعة الرهيبة التي يغذيها الآباء والأمهات والمعلمون من انتهاء التعلم عند مرحلة معينة، قناعة ترسخت جذورها في أذهان الصغار والكبار والأجنة في أرحام أمهاتها، يا ليت قومي يعلمون!
لكننا ومع هذه المشاهد القاتمة الصورة، لا ينبغي أن نقف مكتوفي الأيدي، أو أن نرفع راية الاستسلام لهذا المد الأهوج، بل لا بُدَّ من مجابهته، والوقوف على هذا الثغر إلى أن ينشأ ذلكم الجيل المنشود، الذي يعرف قدر العلم والعلماء.
إن مهمة التربويين في نظري القاصر أن يعيدوا صياغة العقول والأفهام، وأن يقتلعوا جذور الشجر الخبيث الذي زرعه غيرهم، فيغيروا المفاهيم المغلوطة، ويعلموا من يبتغي التعلم وفق المفاهيم السديدة، ويتعاهدوا النبتة حتى تكبر ويشتد عودها، هذا عمل لو يعلمون عظيم!
إن صناعة الرمز لا تكون بين عشية وضحاها، بل سنوات من الكد والتعب والعناء، والتقدم والتأخر، والانتصار والهزيمة، والنجاح والفشل، والمواجهات والصدامات، والعزوف والحزن والفرح، والشدة واليسر، والقوة والضعف، يمتزج هذا كله وغيره حتى ترى ذلك الرمز في طوره النهائي، فكلمة منه تساوي ألفًا من غيره، وصمته له وزنه ودلالته، وتوجيه منه له اعتباره وثقله، أنّى يجود الزمان بمثل هذا؟
مقالات ذات صلة:
المعرفة الإيجابية بين العلم والثقافة
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا