التحدي الفلسفي .. رجل في مواجهة الآلة
في الحادي عشر من مايو سنة 1997، تعرض خبير الشطرنج الروسي وبطل العالم السابق “جاري كيموفيتش كاسباروف” (Garry Kimovich Kasparov من مواليد سنة 1963) للهزيمة أمام الحاسوب العملاق “ديب بلو” (Deep Blue) الذي طورته شركة “آي بي إم” (IBM) الأمريكية للحواسيب والبرمجيات (شركة الآلات التجارية الدولية International Business Machines Corporation). كان “ديب بلو” أول حاسوب يفوز بلعبة أو مباراة أمام عقل بشري خبير في ظل ضوابط زمنية قياسية، وقد جرت المباراة عبر ست جولات، فاز “كاسباروف” بالأولى، وهُزم في الثانية، ثم تعادل في ثلاثة، لكنه هُزم بسرعة وقسوة في الجولة الأخيرة! وبعد الهزيمة صرَّح قائلًا: “لقد رأيت أحيانًا ذكاءً عميقًا وإبداعًا في حركات الآلة”!
بعدها بأقل من عقدين، وفي مارس من سنة 2016، خسر الكوري “لي سيدول” (Lee Sedol) أحد أفضل خبراء العالم في لُعبة “جو” (Go) بنتيجة 4 – 1، أمام برنامج حاسوبي يُعرف باسم “ألفا جو” (AlphaGo)، طورته شركة “ديب مايند” (DeepMind) البريطانية للذكاء الاصطناعي (جوجل Google حاليًا). وتلك لعبة لوحية استراتيجية اختُرعت في الصين منذ أكثر من ألفي عام مضت، ويتنافس فيها اثنان من اللاعبين بتبادل وضع حجارة سوداء وبيضاء على التقاطعات الشاغرة في شبكة مرسومة على لوحة، إذ تتألف الشبكة من تسعة عشر خطًا متقاطعة مع تسعة عشر خطًا أخرى، بما يُمثل 361 تقاطعًا، والهدف منها محاصرة الخصم بأكبر مساحة ممكنة إلى أن يستسلم أو ينسحب. وفي التاسع عشر من نوفمبر سنة 2019، أعلن “لي سيدول” اعتزاله اللعب الاحترافي، مؤكدًا أن الذكاء الاصطناعي كيانٌ لا يُمكن هزيمته، ما أثار جدلًا دوليًا واسعًا حول مخاطر المواجهة بين الإنسان والآلة!
مع ذلك، لم يفتر منطق المواجهة لدي مطوري ومنتقدي تقنيات الذكاء الاصطناعي، ففي يوم الأربعاء الموافق الرابع عشر من يونيو 2023، وفي الوقت الذي خضع فيه 536.081 طالب وطالبة بالمدارس الثانوية في فرنسا لاختبار مادة الفلسفة في السنة النهائية، نظمت مدرسة باريس للتكنولوجيا والأعمال (Paris School of Technology and Business – PST&B)، وهي مدرسة افتُتحت مؤخرًا شرق باريس، ويدرس بها مائة طالب فقط، مواجهة بين “رافائيل إنثوفن” (Raphaël Enthoven)، مدرس فلسفة فرنسي من مواليد سنة 1975،يعرفه الفرنسيون جيدًا من خلال تقديمه لعددٍ من البرامج المتعلقة بالفلسفة في الإذاعة والتليفزيون، ويرفض وصف نفسه بالفيلسوف، والمُحول التوليدي المُدرب مُسبقًا، والمعروف اختصارًا باسم “تشات جي بي تي” (ChatGPT)، برنامج للدردشة أُطلِقت نسخته الأولى GPT-3.5 في الثلاثين من نوفمبر سنة 2022 من قبل مؤسسة “أوبن إيه آي” (OpenAI) غير الربحية بالولايات المتحدة، وسرعان ما جذب الانتباه لردوده التفصيلية وإجاباته الواضحة عبر كثرة من مجالات المعرفة. أما نسخته الأحدث التي استُخدمت في المواجهة GPT-4، فقد أُطلِقت في الرابع عشر من مارس 2023، وهي متوفرة حاليًا لمستخدمي الإصدار المدفوع من روبوت المحادثة “شات جي بي تي” (ChatGPT Plus). وكان موضوع المواجهة الإجابة عن أحد أسئلة امتحان البكالوريا (الثانوية العامة): هل السعادة مسألة عقل؟ أو بعبارة أخرى، هل ثمة دور يمكن أن تؤديه العقلانية في البحث عن السعادة؟
تم توجيه الروبوت في البداية بتزويده بنحو عشرين سطرًا لتوليد الاستجابة، بمساعدة مهندس وفني وبعض المتخصصين في الفلسفة، وهو ما يُعرف في إطار تقنيات الذكاء الاصطناعي باسم الهندسة الفورية (Prompt Engineering) أو هندسة الأوامر (Command Engineering). وطُلب منه كتابة مقال حول الموضوع مع ذكر الفلاسفة الأساسيين الذين تناولوه بالمعالجة. وكان على الروبوت استخدام نبرة أكاديمية تتسم بالإقناع في كتابة أطروحته، كما كان عليه القيام بفحص الإجابات المختلفة التي قدَّمها الفلاسفة على التوالي عن السؤال المطروح، ومن ثم اختيار الإجابة الأكثر إشباعًا وقوة، بحيث تكون أطروحته في النهاية واضحة ومتماسكة وسلسة ومُنظمة.
بعد ساعة ونصف هي وقت الاختبار، قام الطرفان بتسليم نسختي إجابتيهما، وإن كان الروبوت قد استغرق دقيقة ونصف تقريبًا في كتابة أطروحة من تسع صفحات، بينما استغرق “رافائيل إنثوفن” ساعة وربع الساعة في الإجابة. وعلى الفور قام فريق من الخبراء بمراجعة إجابة الروبوت شكليًا وتجزئة بضع فقرات كانت طويلة للغاية، ثم نُسِخت إجابة كل منهما من قبل شخصين مختلفين، بحيث لا تتمكن لجنة المُحكمين من تحديد مَن كتب هذه أو تلك.
تألفت لجنة الحكم من كل من الكاتبة الفرنسية “إلييت أبيكاسيس” (Eliette Abécassis من مواليد سنة 1969)، من أصل يهودي مغربي، وتعمل أستاذة للفلسفة في جامعة كان نورماندي (University of Caen Normandy) في مدينة كان (Caen) في الشمال الغربي الفرنسي، و”ليف فرانكل” (Lev Fraenckel) مدرس الفلسفة بالمدارس الثانوية وجامعة ستراسبورج (University of Strasbourg) الفرنسية، والمعروف باسم “سيريال ثينكر” (Serial Thinker) على منصة الوسائط الاجتماعية “تيك توك” (TikTok).
عقب انتهاء الاختبار والنسخ والفحص لكلت اا الإجابتين، اجتمعت لجنة المُحكمين لتقديم ملاحظاتها وتقديرها شفاهيًا أمام “رافائيل إنثوفن”، وما يقرب من خمسة عشر صحافيًا، بالإضافة إلى عددٍ من المعلمين وبعض كبار رجال الأعمال: لقد خسر الذكاء الاصطناعي التحدي، لكنه تجاوز المتوسط وحصل على إحدى عشرة درجة من مجموع الدرجات البالغ عشرين درجة، أما “رافائيل إنثوفن” فقد حصل على الدرجة النهائية!
جاءت ملاحظات المُحكمَيْن واضحة ومُباشرة للغاية، وأعلن كلاهما أنه كان من السهل التمييز بين النص الآلي التوليدي والنص البشري: “لم يُثر الروبوت أو يُعالج أية مشكلة، بل كتب جملًا فارغة مشفوعة باقتباسات تقريبية، لم يُناقش أو يُجادل أو يُفسر، لكنه اكتفى برصف جُملٍ أنيقة، وإشاراته المرجعية ضعيفة”، على حد تعبير ليف فرانكل!
أما إلييت أبيكاسيس فقد أعلنت أن كل ما قدَّمه الروبوت لا يعدو أن يكون مجرد كتالوج مختصر لما أدلى به الفلاسفة من آراء عبر تاريخ الفلسفة، بما في ذلك أرسطو وكانط وفرويد ونيتشه وكامو، مدعومًا بمراجع مُبهمة ومبتسرة. ولأن آلية عمله تعتمد على التنبؤ بالكلمة التالية في جُملة أو فقرة، فقد كان يعمد إلى اختيار الكلمة الأكثر رُجحانًا من غيرها، ما أدى إلى إنشاء جُملٍ توافقية للغاية، لكنها يُمكن أن تكون خاطئة أو غير دقيقة، ولعل هذا هو السبب في أن إجابته تخلو من أية رؤية نقدية خاصة، وهو ما يجب أن يلتزم به أي طالب يحترم المنهجية البحثية في المرحلتين الجامعية وقبل الجامعية! صحيح أن إجابة الروبوت قد انطوت على أفكارٍ جريئة، لكنه لم يتطرق قط إلى لُب المشكلة، بل اكتفى بالسرد والحياد، لذا كتب في خاتمة موضوعه: “ليست هناك إجابة واحدة ومُحددة يتفق عليها الجميع فيما يتعلق بالسؤال المطروح، بل إن ثمة عددًا لا يُحصى من المسارات نحو تحقيق السعادة، يمكن أن تكون السعادة خاضعة للعقلانية، ويُمكن أن تكون أكثر من ذلك”!
على العكس من ذلك، جاءت إجابة “إنثوفن” مُتقنة بشكلٍ رائع، وتعكس رؤية فلسفية مدروسة ومكتوبة بإحكام ودقة، فالفلسفة لا تُقيَّم بالاقتباسات، أو بالجمل والعبارات الغامضة والرنانة، أو بالسرد التاريخي الخالص، وإنما بما تُثيره من مشكلات، وما تُقدمه من رؤى مستقبلية، وما تطرحه من وجهات نظر، وهذا بعينه ما فعله “إنثوفن” واستحق عليه الدرجة النهائية في الاختبار.
يبدو إذًا أن الفلسفة كونها نشاطًا إبداعيًا ليست من بين المهن المُهددة بالاندثار أمام الزحف المتصاعد لتقنيات الذكاء الاصطناعي، على الأقل حتى الآن. وعلى الرغم من انتقاد بعض المتخصصين في التعليم لهذا الحدث بوصفه “تمرينًا أجوفًا” (Hollow Exercise)، يضع الذكاء الاصطناعي في مواجهة غير ملائمة مع الذكاء البشري، فإنه –وفقًا لتصريح “ماري كارولين ميسير” (Marie-Caroline Missir)، المديرة العامة لشبكة كانوبي (Canopé Network) المعنية بتحرير وإنتاج ونشر الموارد التعليمية والإدارية للتعليم الفرنسي– يمكن أن يكون وسيلة تعليمية مؤثرة. وعلى المنوال ذاته تنسج “مارجريدا روميرو” (Margarida Romero) الأستاذة بجامعة كوت دازور (Université Côte d´Azur) الفرنسية، وجامعة لافال (Université Laval) في كندا، إذ اقترحت أن تكون المواجهة نشاطًا فصليًا مُتكررًا للطلاب، يُمكن أن يسمح لهم بقياس قدرات وحدود الذكاء الاصطناعي، ويُزيل الغموض حول هذا النوع من التقنيات.
في مارس الماضي (2023) تمكن تشات جي بي تي4 من اجتياز الاختبار العام لنقابة المحامين الأمريكية Uniform Bar Examination UBE))، بنسبةٍ مثيرة للدهشة، وهو اختبارٌ معياري شاق يُعقد على مدار يومين، ويجب اجتيازه للحصول على رخصة مزاولة مهنة المُحاماة في الولايات المُتحدة، ويتألف من ثمانية مقالات ومائتي سؤال متعدد الاختيارات، ويُغطي الموضوعات القانونية كافة مثل القانون الدستوري، والقانون الجنائي، والإجراءات المدنية، وما إلى ذلك. ومع أن نسبة الرسوب في الاختبار تبلغ عادة أربعين في المائة، إلا أن الروبوت التوليدي لم يتمكن فقط من النجاح، بل حصل على مائتين وثمانية وتسعين درجة من المجموع الكلي البالغ أربعمائة درجة، وهو ما يضعه ضمن فئة العشرة في المائة الأوائل، متفوقًا على ما نسبته تسعين في المائة من الممتحنين. لكن الأمر في مجال الفلسفة يبدو مُختلفًا، فالروبوت لديه قدرة مذهلة على استيعاب النصوص (التشريعات والقوانين)، لكن قدرته على التفكير والابتكار والحجاج تبدو حتى الآن محدودة، إن لم تكن منعدمة. ولئن كانت للقانون فلسفة (بالمعنى الحجاجي النقدي)، فمعنى هذا ببساطة أن نجاح الروبوت في الاختبار –رغم صعوبته– لا يُسوغ له ممارسة مهنة المحاماة!
على الإجمال، إذا كنا نُعرف الذكاء بصفة عامة بأنه “قدرة عقلية عامة جدًا تتضمن، من بين أشياء أخرى، القدرة على التفكير والتخطيط وحل المشكلات والتفكير المجرد، وفهم الأفكار المعقدة والتعلم بسرعة والتعلم من خبرة”، فلن نستطيع حتى الآن الزعم بأن المُحول اللغوي التوليدي جي بي تي4 قد بلغ حدًا مثاليًا فيما يُنتجه، أو أنه يقترب من القدرة على فعل أي شيء يمكن للإنسان القيام به، أو أن لديه دوافع داخلية وأهدافًا.
ليس من الواضح تمامًا إلى أي مدى يمكن للروبوت أن يتماشى مع بعض محاور الذكاء التي احتواها التعريف، لا سيما القدرة على التخطيط، بل يمكن القول إنه يفتقد تمامًا الجزء المتعلق بالتعلم السريع والتعلم من التجربة، لأنه ببساطة لا يتم تحديثه باستمرار، وبناء عليه فإن أنماط الذكاء الآلي بشكل عام ليست شبيهة بذكاء البشر. ومع ذلك، من المؤكد أن النموذج الآلي المُطور جي بي تي4 مجرد خطوة أولى نحو سلسلة من الأنظمة الذكية بشكل متزايد، وهنا مكمن الخطورة والقلق، خصوصًا في بلادنا العربية المُستهلكة بشراهة للتكنولوجيا الغربية، إذ تتدنى لدينا مستويات الإنتاج الأكاديمي الإبداعي، وتتراجع أخلاقيات البحث العلمي، وتغشانا الرغبة في الحلول الجاهزة والوصول السريع، الأمر الذي قد يجعل من النماذج التوليدية أدوات أثيرة للحصول على الألقاب والترقي الوظيفي والتفوق الكاذب!
مقالات ذات صلة:
في إمكان ولادة الفيلسوف العربي
تقنية الميتافيرس وأبعادها الاجتماعية
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا