إصداراتمقالات

التجرد وأهميته

أحد أهم مفاتيح العلم وبدونه يفقد الإنسان أهم مميزات وصفات المتعلم ليتحول بدونها إلى شخص منغلق على الذات لا يرى ولا يسمع ولا يعتقد سوى فى آرائه واعتقاداته الشخصية التى اكتسبها بأى طريق كان. ذلك هو التجرد العقلى وهو ما يصطلح عليه أيضاً بـ”الموضوعية” وهو ما يعنى النظر والتأمل والحكم على المضمون أو موضوع القضية الفكرية المطروحة من حيث صحتها أو خطأها فى ذاتها، وليس الحكم عليها من خلال الاتفاق أو الاختلاف الشخصى مع قائلها أو بافتراض دوافعه. ولذلك فالتجرد هو حالة نفسية يسعى فيها الإنسان لكى يكون موضوعيًا أو متجردًا فى الاستماع وتقبل الحقائق حتى لو كانت تلك الحقيقة لدى الخصوم أو إذا ما خالفت ما يعتقده الإنسان، وبالتالى فوجود تلك الحالة يفتح الباب لصاحبه ويسمح له بالتعلم أى اكتساب المعرفة والجديد منها باستمرار والقدرة على تصحيح الأفكار والمعتقدات أو تغييرها بعد الاستدلال على صحتها. ذلك الاستدلال الذى يتحقق من خلال تطبيق قواعد وأحكام التفكير المنطقى فيسمح للإنسان بتحرى درجة الحكم على القضية ما بين اليقين والظن أو الوهم وبالتالى لا يحمل الفكرة أكثر مما يجب أن تحتمله من درجة فى تصديقها بمراعاة نوع الاستدلال الذى توصل به إليها. من هنا يمكن القول أن التجرد هو أيضاً تلك الحالة التى تسمح لصاحبها بمراعاة واتباع قواعد التفكير المنطقى بدقة.

تلك الحالة التى يجب على الإنسان أن يسعى لتحويلها إلى ملكة أخلاقية نفسية مثلها مثل أخلاقيات الشجاعة والكرم والعفة التى يمكن وصفها بـ”الحالة” إذا ظل الإنسان فيها بين مراوحة فعلها وعدمها أماإذا تجذرت فى النفس الإنسانية أصبحت ملكة وصفة منطبعة فيها تظهرعلى سلوكياته وأفعاله بشكل تلقائى دون جهد أوعنت، من أجل ذلك تعود أهمية التجرد إلى كونه مثل باقى الكمالات الأخلاقية من أهم الكمالات الحقيقية الموجبة لسعادة الإنسان والتى عليه أن يسعى لاكتسابها ليتكامل ويسعد. وكما أن قضية العدالة تظل هى القضية الحاكمة على كل الصفات والكمالات الأخلاقية فمن خلال صفة التجرد يظهر بوضوح كيف تساعد الإنسان على أن يكون عادلاً منصفًا مع نفسه عندما يسمح لها بالاحتكام والانصياع فقط الى أحكام العقل والمنطق دون أية دوافع أخرى شهوية أو غضبية.

إن للتجرد مقياسًا يمكن الوقوف عليه اذا حُسم التوجه والنية التى يسعى من خلالها الفرد لاكتساب العلم، فالتجرد هو صفة الشخص الباحث عن الحقيقة فى ذاتها أيًّا كان مصدرها وقائلها وليست صفة الباحث عن المنفعة أو المصلحة الشخصية – مادية كانت أو معنوية – أو من كان متعصبًا لآرائه ولا يهدف سوى الانتصار فى معارك الرأى على خصومه وإفحامهم ويتعمد التسفيه والتحقير من آرائهم. وهو ليس صفة من ليس له توجه ولا يدرى ما الهدف الذى يسعى للوصول إليه ولنا أن نتخيل كيف سيكون الشخص المتحلى بالموضوعية والاستعداد لتقبل الأفكار المختلفة إذا ما افتقد هدفًا ما يسعى إليه من خلال معرفته،إذ ستصبح النتيجة هى حالة من سرعة التصديق لكل ما يقال والتى يمكن وصفها بالسطحية أو السذاجة الفكرية.

يخطىء من يظن أن الإلمام بمعرفة قواعد التفكير قد تغنى عن محاولة اكتساب التجرد ذلك لأن من لديه مانع أو عائق يمنعه من صحة التفكيرلن تفيده معرفة القواعد بل قد تدفعه دوافعه وشهواته إلى استغلال القواعد من أجل صناعة المغالطات فيخدع أو يجادل بغير حق فقط لينتصر لآرائه وأفكاره. إن المزارع يحتاج الى إزالة الحشائش والطفيليات الضارة المعوقة لنمو النبات قبل أن يصرف وقـتًا وجهدًا على توفير التغذية وظروف المناخ للتربة لكى تثمر حتى مع إلمامه بكل قواعد الزراعة المعروفة والمتبعة، حتى إن تقاعسه عن ذلك قد يؤدى إلى الضرر والهلاك للنبات ولن يثمر الثمرة المرجوة، بل لعله إذا اهتم أولاً بإزالة المعوقات لما احتاج إلى كثير من الجهد والطاقة التى يصرفها إلى زيادة المكونات الغذائية للتربة بل ربما تكون مكوناتها الطبيعية وحدها كافية جدًّا للإنبات، كذلك ستكون عملية التفكير إذا لم يهتم الإنسان بإزالة معوقات التجرد حتى مع معرفته بالقواعد، بل إنه عندما يتجرد يعود بعقله إلى نقاء فطرته وأصالته التى تقتضى اتباع قواعد التفكير بطبيعتها. وماذا تفيد تعلم قواعد القيادة إذا ما جهل الإنسان الى أين يرغب فى المسير أو فى أى الطرق ينبغى أن يسلك ليصل الى هدفه ! وقتها سيتحول إتقانه للقواعد إلى وسيلة لضلاله وتشتيته، كذلك هى قواعد التفكير لن تثمر سوى لمن كانت لديه قدرة على الاختيار والتفكير الحر المتجرد ومن سبق بتحديد هدفه وليس لمن كان تابعًا فكريًا أو فاقدًا لاتجاهه فى المعرفة والبحث.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إن الإنسان فاعل مختار باحث بفطرته عن الكمالات الموجبة للسعادة، وهو من تلك الحيثية ينبغى له بعد إدراك أهمية التجرد فى اكتساب الكمالات والمعرفة التى فيها سعادته،أن يسعى إلى اكتساب تلك الصفة الهامة، والتى لن تتم إلا بوقوفه أولاً على آفات نفسه ودواخلها ومعرفه المعوقات والموانع التى قد تعيق شخصه عن التجرد، تلك المعرفة التى لن يدركها سوى كل إنسان بذاته ولا يمكن لأحد غيره أن يكتشفها فى نفسه، فيعرف ما إذا كان خوفه أو يأسه أو غضبه أو غروره أو شهوته أو تعصبه قد حضرت لديه فى أى موقف من المواقف ومنعته من أن يكون موضوعيًا متجردًا فى تقبله للحقائق أو فى حكمه على الأمور. فإذا أدرك ذلك كان عليه أن يبدأ فى مجاهدة تلك الدوافع وتدريب نفسه على التخلص منها.

إن التجرد وان كان مطلوبًا فى بداية الرحلة للمعرفة فاستمراره ومصاحبته للإنسان أيضًا مطلوب طوال رحلته فى اكتساب المعرفة، ذلك أن فى بدايتها يفترض بالإنسان الباحث عن الحقيقة أن يفترض فى نفسه الجهل وبمعونة التجرد يسعى للبحث عن الحقيقة من خلال أدلتها القطعية دون أن يكون منحازًا لأية أفكار أو اعتقادات مسبقة غير واقعية أو غير مدلل عليها، فإن فعل فقد ناقض نفسه بافتراض أنه يبغى العلم فى نفس الوقت الذى يفترض فيه أنه عالم. كما أن الإنسان ما أن يبدأ فى التحصل على تلك المعرفة اليقينية لا ينبغى له أن يتنازل عن تجرده، ذلك أن باب المعرفة واسع ولا حد له فإن فعل فقد أغلق نفسه على معرفته ولم يسمح لنفسه بمزيد من التعلم أو بتنقيح أفكاره إن ثبت خطؤها، بل يبقى التجرد مطلوبًا ليظل فى حالة تسمح له بالاستماع وقبول الآخر وعرض أدلته على ميزانه العقلى فيكون قبوله أو رفضه لها مبنيًا فقط على المعايير والقواعد العقلية المنطقية. من جهة أخرى فإن ضرورة التحلى بالتجرد طوال رحلة المعرفة لا تعنى عدم الانحياز أو الحياد تجاه ما يصل إليه الإنسان من معارف مبرهن عليها بل يجب أن تشكل تلك المعرفة انحيازاته ورؤيته واعتقاده طالما تحرى فيها الصدق واليقين، فلا تعارض بين أن ينحاز الإنسان للمعرفة التى شكلت رؤيته وخلفيته النظرية وبين أن يظل متجردًا يسعى إلى التحقيق والتعلم بشكل مستمر، وطالما كان هدفه الوصول إلى الحقيقة فعليه أن يلتزم بها ما إن عرفها وإلا سيصبح هدفه منذ البداية فى البحث عن الحقيقة محلاً للتناقض والشك.

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

دينا خطاب

باحثة في علوم التفكير والمعرفة

فريق مشروعنا بالعقل نبدأ بالقاهرة

مقالات ذات صلة