التجربة الجمالية وأخلاقيات الممارسة الكيميائية .. الجزء الأول
لم يحدث عبر تاريخ الكيمياء أن أظهر الكيميائيون اهتمامًا بالقيمة الجمالية لمنتجاتهم بمثل ما يحدث عالمنا المعاصر، فوفقـًا لتحليل حديث نسبيًا لثلاثمائة ورقة بحثية قدمها علماء الكيمياء، وُجد أن نسبة 2% على الأقل من هذه الأوراق المختارة عشوائيًا يذكر أصحابها القيمة الجمالية للجزيئات أنها واحدة من أهداف عملهم. وليست هذه النسبة مما يمكن أن يوصف بالبساطة أو الضآلة، ذلك أننا إذا ما أخذناها على مجمل الأبحاث الكيميائية المنجزة سنويًا لوجدنا أنها تفوق العدد الإجمالي للأوراق الفلسفية المنشورة على مدار العام.
لا يعني ذلك أنه لم تكن هناك نزعة فنية لدى الكيميائيين من قبل، بل كانت هذه النزعة –ذات الصبغة الجمالية– موجودة بالفعل، كل ما في الأمر أنها لم تكن منصبة على البحث الكيميائي ذاته، وإنما كانت تجد طرائق إشباعها في الفنون الأخرى المختلفة، التي لم تعد الكيمياء الآن تقل عنها إبداعًا وجمالًا. هذا ما أكده تحليل بيوجرافي إحصائي أجراه الكيميائي الهولندي «فانت هوف» عام 1878، إذ اتضح أن عددًا كبيرًا من علماء الكيمياء المميزين الذين شملهم التحليل (نصفهم على الأقل) يمارسون فنًا أو آخر من الفنون الجميلة في أوقات فراغهم.
كيف أمكن إذًا للكيمياء أن تصبح فنًا جميلًا؟ ما عناصر التجربة الجمالية التي تكتنف الكيميائي حين يمارس عمله؟ وما مواطن الإبداع الكامنة في هذا العمل؟ تستلزم الإجابة عن هذه التساؤلات أن نتطرق إلى أكثر من نظرة جمالية، ذلك أنه يصعب تحديد معيار للجمال يتفق عليه الجميع ويُشبع الأذواق كافة، لكن حسبنا أن نشير إلى أن تنوع الأبعاد الجمالية للكيمياء من شأنه أن يتجاوز بنا تلك الصعوبة، وأن يعتلي بهذا العلم منصة الإبداع الفني، سواء من حيث النظرة التجريدية، أو من حيث الممارسة والتطبيق.
أولًا: الكيمياء ميدانًا للتجربة الجمالية
نعني بالتجربة الجمالية هنا تلك الحالة الوجدانية التي تعتري الكيميائي حين يتعامل مع المادة –تحليلًا وتركيبًا– فتـُضفي عليه إحساسًا بالمتعة، سواء أكان هذا التعامل بالفعل داخل المعمل، أي على المستوى التجريبي المباشر، أو كان يجري بصورة تجريدية خالصة، أي ترميزات وأشكال تخطها الأقلام أو يُستعان في أدائها ببرامج الحاسب الآلي. ومن الشواهد الدالة على كثافة الفن الكيميائي، ومن ثم كثافة تجاربه الجمالية، أننا إذا توقفنا أمام حقيقة أن لكل فن مادته، كأن تكون حجارة أو خطوطـًا أو حتى موجات صوتية، وتساءلنا عن المادة الخام للفن الكيميائي، لوجدنا أنها تشمل هذه المواد كلها جميعًا، فالكيميائي يتعامل مع أي مادة نوعية أنها مادة خام لإبداعه الفني، فإذا ما امتدت إليها يداه –تسبقها أفكاره– نجد أنها قد استحالت «موضوعًا جماليًا»، نشعر حين نكون بإزائه أنه قد اكتسب ليونة وطواعية بفعل المهارة الفنية والقدرة الإبداعية. وهكذا يجمع جمال الكيمياء بين جمال الرسم وجمال النحت وجمال الموسيقى، فضلًا عن جمال التجريد الرمزي الرياضي الموقوف زيفـًا على الفيزياء!
لو أردنا إذًا تنميط عناصر التجربة الجمالية في الكيمياء لوجب علينا السير في اتجاهين مترابطين، أولهما البعد الإدراكي للحواس، وثانيهما البعد التأملي للعقل، فباجتماعهما يغدو البحث الكيميائي مشاركة وجدانية تلتقي فيها آثار حسية وغير حسية، تمامًا كما تلتقي الإحداثيات الأفقية والرأسية للدالة الرياضية في نقاطٍ محددة، فتشّكل خطـًا متصلًا يعكس بانحنائه طبيعة الظاهرة أو الحدث وفقـًا للمنظور البشري، ولنعمد إلى تفصيل ذلك بأمثلة يضربها الكيميائيون أنفسهم.
الكيمياء والرسم بالألوان
تشترك الكيمياء مع فن الرسم في سمة وجدانية هامة وبارزة، ألا وهي الفتنة باللون، فليس اللون في نظر الكيميائي أو الرسام محض كيف للضوء أو مكوّن له كما علَّمنا «نيوتن»، لكنه أولًا –وعلى نحوٍ خادع أو مجازي– يعكس ماهية المادة. وإذا كانت الرؤية والشم واللمس إحساسات أولية للكيميائي (وكذلك لمعظم علماء الطبيعة)، إلا أن الرؤيةَ الإحساسُ الأكثر أهمية، ففي المعامل يرقب الكيميائيون إبداعات التغير اللوني داخل أنابيب الاختبار، ويشاهدون ما تُخلفه المحاليل من رواسب صلبة ملونة، وما يتصاعد بفعل التفاعلات من أدخنة ذات ألوان مختلفة، وهذه كلها مظاهر إبداعية –تثير فضول الكيميائيين– إزاء عينة من المادة تكابد تحولات نوعية معينة. هكذا يغدو الإدراك الحسي للألوان وتغيراتها بُعدًا جوهريًا للجمال الكيميائي، وهو بعدٌ لا يقف عند حدود الإشباع الوجداني فحسب، وإنما من شأنه غالبًا توجيه البحث وجهة جديدة، والإمساك بكشفٍ أو آخر على طريق فهم المادة وطبائعها المستترة.
خذ مثلًا اكتشاف الصبغة المعروفة بالأزرق البروسي (Prussian blue)؛ خضاب لونه أزرق داكن، يتكون أساسًا من حديدي حديدو سيانيد البوتاسيوم أو الصوديوم أو الأمونيوم، ففي سنة 1710 كان «هير ديازباخ» (Herr Diesbach)، صانع الصبغة في برلين، يشتغل بتحضير الأحمر القرمزي (Cochineal red)، وهي صبغة طبيعية حمراء اللون، تُستخرج من جوف حشرة مكسيكية تُسمى «الدودة الهلامية القرمزية» (Dactylopius coccus)، وتعيش على أشجار التين الشوكي. وفي محاولاته لتنقية الصبغة حللها «ديازباخ» لكي يُعد راسبًا، ومن ثم أضاف البوتاسا إلى المحلول الذي أعده. حينئذ أصابته دهشة عظيمة، لقد تكونت صبغة مختلفة تمامًا: الأزرق البروسي – كما دُعيت فيما بعد.
إن جدارة «ديازباخ» قد تجلت في مثابرته أمام الناتج غير المتوقع، فقد كان بمقدوره طرح محتويات القارورة والعودة إلى إجرائه العادي لتقطير الأحمر القرمزي، لكن فضوله دفعه إلى تأمل روعة التحول اللوني ومحاولة تفسيره، فكان كشفه لتلك الصبغة المستخدمة الآن على نطاق واسع.
إن جمال الكيمياء ينبع إذًا –أولًا وقبل كل شيء– من دهشة التغير الدائم. لكن ما نوع الدهشة؟ إنه ذلك النوع الفعَّال، شديد الشوق إلى الشرح والتفسير، وما نوع التغير؟ إنه –مبدئيًا– تلك التعديلات والتحولات الملاحظة في الجانب المنظور من الشيء.
يتبع…
مقالات ذات صلة:
جسور التواصل بين الفلسفة والكيمياء
الأبعاد الجمالية لأخلاقيات البيئة
علماء الفيزياء يصنعون المادة من حق جديد!
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا