البحث عن السعادة .. والعوالم الممكنة
لقد أرسلتُ لك قاربين أيها الأحمق!
“أبي؟ هل تريد أن تسمع شيئا مضحكا؟ ثمة رجل كان يكابد الغرق، فمر بجانبه قارب، وقال له راكبه: «ألك حاجة؟» (يعرض عليه المساعدة)؟ فقال له: «سوف ينقذني ربي».
ثم مرّ بجانبه زورق آخر، وقال له راكبه: «ألك حاجة؟» (يريد أيضا مساعدته)، فقال له: «لا، سوف ينقذني ربي». وظل الرجل يصارع الأمواج حتى مات غرقا، وبعدما فاضت روحه، سأل ربه: «لماذا لم تنقذني عندما كنت أغرق؟» فأجابه: «لقد أرسلتُ لك قاربين أيها الأحمق!»”.
ورد هذا المشهد في فيلم «البحث عن السعادة» The Pursuit of Happyness ، عن السيرة الذاتية لرجل الأعمال الأمريكي «كريستوفر بول جاردنر» Christopher Paul Gardner (من مواليد 1954). وبغض النظر عن محتوى اللقطة، تتجلى العبرة في أن هذا العالم يقبل فقط من يسبح في اتجاه التيار الغالب ولو كان مؤديا إلى الهاوية! مستعد لقتلك لو توقفت لحظة فحسب عن السير في ركاب الحشد، ولو كان حشدا تائها! هذا العالم مستعد لسحقك لو نحيت وجهك جانبا، أو التفت وراءك بنظرة مغايرة!
لكل منا مرحليته
لا تكن إمعة، لا تستسلم ظانا بأن في الاستسلام النجاة، فلن تجدها في النهاية، استمع ولو لمرة واحدة لصوت العقل، ولصوت الآخر الخافت، سيسخرون منك، سيتهمونك، سيحاربونك.. لا عليك، يكفيك أن تقنع شخصا واحدا بأن الحشد يركض في اتجاه خاطئ خلف حفنة من شعير.. يكفيك أن تنعم بالتصالح مع المنطق الداخلي لذاتك، وأن تحيا في سلام مع العقل، وأن تسترجع حقك في الحياة..
يكفيك أن تكون إنسانا مُدركا لرحابة العوالم الممكنة المتاحة، موقنا بأن تميزنا بالعقل (كبشر) يعني أن أفكارنا تشكّل الواقع، وتبني عددا لا حصر له من العوالم الممكنة. صحيح أننا نشترك إدراكيا في محسوسات عالمنا الفعلي، لكن لكل منا مرحليته وخبراته وموروثاته ولغته وبيئته وبنيته العقلية والنفسية التي تشكل في النهاية عالمه الخاص.
هكذا يختلف عالم الطفل عن عالم الشاب عن عالم الشيخ، ويختلف عالم المرأة عن عالم الرجل، وعالم المؤمن عن عالم المُلحد، وعالم المتفائل عن عالم المتشائم، وعالم الجاهل عن عالم المتعلم. وتختلف العوالم الممكنة أيضا بين المتعلمين وفقا لمستوياتهم وتخصصاتهم، كما تختلف من أمة إلى أخرى وفقا لمستوى رقيها الحضاري والعلمي.
سر فشلنا
ولو طبقنا ذلك على أمتنا العربية – الإسلامية لوجدنا أن عوالمنا الممكنة لا حصر لها، لكنها (بمقياس الحاضر الغربي) لم تبلغ بعد مرحلة الرُشد الحضاري، أو بلغته بعد أن أتم الله لها دينها، ثم نكصت على أعقابها، فغابت عنها حقيقة أن ثراء العوالم الممكنة في تعددها، في تكامل الأوجه المتدفقة للحقيقة، وغابت عنها أيضا حقيقة أن العوالم الممكنة تحوي عوالم الفشل إلى جانب عوالم النجاح!
صحيح أن عوالم الفشل أيسر، وأكثر امتلاكا لعناصر القوة والهيمنة، وأسرع تشيؤًا وتحولا إلى عوالم فعلية نرتع في حظائرها ونكابد مرارتها، لكن مجرد قبولنا لها، ورقصنا على دقات طبولها، وتسليمنا بأحاديتها، كل ذلك هو سر فشلنا! إنها الفكرة الغائبة، والعالم الممكن الغائب، والنص الغائب في قصيدة الواقع العربي المعاصر!
اقرأ أيضاً:
مفهوم السعادة في الفكر الفلسفي اليوناني
لم يكن الأمر ممتعًا كما تخيلته
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.