مقالات

الايبستمولوجى .. بين الاحتواء والرفض

الايبستمولوجى .. بين الاحتواء والرفض

تستعمل لفظة ابستمولوجيا ( الايبستمولوجى ) للدلالة على علم المعرفة ، وهى لفظة مشتقة من كلمتين يونانيتين هما: logos بمعنى دراسة ، episteme بمعنى معرفة ، أى أنه العلم الباحث فى المعرفة نفسها ، ولما كانت أصول المعرفة تكاد تكون متفق عليها فلم يكن علم نظرية المعرفة أو علم المعرفة  ( الايبستمولوجى ) مستقلاً بذاته ، فلم يكن له وجود حقيقى سوى بعض الأقوال هنا أو هناك فى كتابات الفلاسفة والحكماء ، حتى كان السؤال الذى طرحه إدموند  غيتر -أو ما يعرف الآن بمعضلة غيتر- والذى مثل فيما بعد موضوع علم نظرية المعرفة وهو ما هى المعرفة ؟ ، والغريب أن غيتر على الرغم من كونه أستاذاً للفلسفة فى جامعة ماساشوسيتس إلا أنه لم يكن له من الاهتمام أو الاسهامات ما تخطى ذلك السؤال الذى طرحه فى مقالته التى لم تتعد الثلاث صفحات فقط ، لتكون تلك المقالة التى نشرت عام 1963 هى حجر الأساس فى أن يتشكل علم نظرية المعرفة كعلماً خاصاً مستقلاً بذاته (1)

وكما كانت الميتافيزيقا التى لا يمكن الجزم ببدايتها الحقيقية فى التاريخ كانت الايبستمولوجى كذلك ، فقد زعم البعض أن أشعار هوميروس وتخيلاته الساذجة للآلهة هى بداية الفلسفة ، كما أعتبرها البعض تبدأ عند طاليس وتلاميذه أناكسيمندر وأناكسمينس وما قالوه فى بداية العالم والعناصر المادية الأربعة المكونة للكون (2) ، إلا أن كل هذا لم يكن البداية الحقيقة للفلسفة كعلم واضح المعالم حتى تأسست على يد سقراط وأفلاطون وأرسطو ، كذلك كان علم نظرية المعرفة  ( الايبستمولوجى ) التى لم يتخطى بعض الردود التى وردت فى كتابات أفلاطون على لسان سقراط ، أو ما ظهر من كتابات أرسطو كمعالم للمنهج العقلى البرهانى ، حتى ظهر كانت بإشكالاته القوية على المعرفة كمؤسس للاأدرية ، أو من رأوا التشكيك فى قدرة الإنسان والعقل على الوصول للحقيقة، فقد رأى أن من سبقه من الفلاسفة كانوا دجماطيقيين يعتقدون بلا دليل أن العقل مجانس للوجود ، فرأى أن الفلسفة لابد أن تسبقها دلائل على قدرتها على الوصول للحقيقة ، وهو ما عبر عنه: “تحديد مجال العقل الخالص ورسم حدوده على جهة الاستيعاب وطبقاً لمبادىء كلية شاملة ، وهذا ما تحتاج الميتافيزيقا إليه لكى تشيد بناءها وفقاً لمنهج يمكن الاطمئنان إليه” (3)

ولكن هذا كله لا يعنى بأى حال من الأحوال أن كانت كان معادياً للميتافيزيقا أو باحثاً عن هدمها ، بقدر ما كان يبحث عن ميتافيزيقا بديلة للتى رآها -من وجة نظره- متعالية تجزم بما لم تستدل عليه استدلالاً كافياً ، فرأى “إن الميتافيزيقا ، باعتبارها استعداداً طبيعياً موجودة ثابتة: لأن الفكر الإنسانى يسير قدماً … ، تسوقه حاجة داخلية نحو أسئلة لا يجيب عنها استعمال العقل استعمالاً تجريبياً ولا تجيب عنها مبادىء مستمدة من ذلك الاستعمال. وإذن فقد وجد دائماً ، وسيظل يوجد دائماً -لدى الناس جميعاً ومتى نضجت عقولهم وتهيأت للنظر والتأمل- نوع من الميتافيزيقا” (4) ، فكانت الميتافيزيقا لديه مرغوبة مطلوبة وإن عجز عن إثبات مبادئها ، وهى معضلة معقدة لاشك فيها إلا أنه يتيسر النظر إليها حال أن نعى ما فى ذلك من تسلسل وهو محال ، فكان لابد أن تبدأ الفلسفة بما هو حجيته ذاتية ، فكانت البديهيات العقلية القائمة على حجية وجودنا ذاته ، وهو ما أورده المفكر الإسلامى محمد تقى مصباح اليزدى: “إن القضايا التى تحتاجها الفلسفة الأولى مباشرة هى فى الواقع قضايا بديهية لا تحتاج إلى إثبات ، وكل التوضيحات التى تُقدم حول هذه القضايا فى علم المنطق أو علم المعرفة هى فى الحقيقة تنبيهات وليست استدلالات. أى أنها وسيلة لإلفات الذهن لحقائق يدركها العقل من دون حاجة إلى استدلال … وإذا لم يقبل أحد ((قيمة الإدراك العقلى)) ولو بصورة غير واعية فكيف يمكننا الاستدلال له ب((برهان عقلى))؟ كما أن هذا البيان نفسه هو بيان عقلى” (5)

وقد عانى فرانسيس بيكون من نفس المشكلة التى عانى منها كانت ، فعلى الرغم من كون المنهج الجديد لبيكون القائم على الاستقراء العلمى المنهجى قد عارض الاستقراء بالعد البسيط -ناهيكم عن معارضته للقياس العقلى القائم على البديهيات العقلية- ، إلا أنه لم يستطع القبول بالتسلسل ، فاعتبر البديهيات العقلية استقراءاً بالعد البسيط ، مخالفاً فى ذلك ما قام عليه منهجه العلمى ، وقد فسر برتراند راسل الاستقراء بالعد البسيط بالمثال التالى: “حدث فى زمن ما أن كان على موظف الاحصاء السكانى أن يسجل أسماء جميع سكان قرية من قرى مقاطعة ((ويلز)). فأول واحد سأله كان يدعى ((وليام وليامز)) ، وكذلك كان اسم الثانى ، والثالث والرابع … ، وأخيراً قال لنفسه: “هذا شىء ممل ، فالواضح أنهم كلهم يدعون ((وليام وليامز)). سأسجلهم على هذا النحو وأظفر بيوم عطلة.” ولكنه كان مخطئاً ، فقد كان هنالك واحد منهم يدعى ((جون جونز)). هذا يظهر أننا سنضل إذا وثقنا للغاية ثقة ضمنية فى الاستقراء بالعد البسيط.” (6) ، وبذلك وجد بيكون نفسه أمام معضلة أبى أن يعترف بها للقياس الذى حاربه طوال حياته ، فلم يجد سوى التسليم بأقل الأمرين ضرراً وهو الاستقراء بالعد البسيط ، وهو ما قال عنه برتراند راسل: ” “أن لا بيكون ولا أحد من أخلافه وجد طريقاً للخروج منها.” (7)

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ليظهر مما سبق كله ما وقع فيه رافضى القياس من خلل ، فكان إما ناكراً للمعرفة ويجلها فى آن واحد ، أو فاقداً لحجية منهجه ومبادئه بما يكفل له الخوض فيما تتناوله الميتافيزيقا من مسائل ، فوقع اللغط فى ظل ذلك الرفض الكامل للمنهج القياسى البرهانى، وهو ما تجنبه الفلاسفة المشائيون منذ القدم، فكان الإتفاق على ما للتجربة من سلطان لسبر أغوار الطبيعة، ليكون المنهج العقلى قائماً على احتواء المناهج المعرفية كلها ، كل بما له الحجية على الخوض فيه ، فكان للعقل أن يغرق فى بحر العلم بالوجود المطلق أو الوجود العام بوجه عام، وكانت التجربة – فى ظل حاكمية العقل وبديهياته – القائمة بالنظر فى الوجود الخاص بوجه خاص.

(1) ما المعرفة؟ – دنكان بريتشارد صـ50،51

(2) تاريخ الفلسفة اليونانية – يوسف كرم صـ7

(3) محاولات فلسفية – د. عثمان أمين صـ31

(4) المرجع السابق صـ37

(5) المنهج الجديد فى تعليم الفلسفة – محمد تقى مصباح اليزدى صـ148

(6) تاريخ الفلسفة الغربية – برتراند راسل صـ82

(7) المرجع السابق صـ86

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

محمد صابر

مهندس حر

باحث في علوم التربية وفلسفة التعليم بمركز “بالعقل نبدأ”

دراسات عليا في كلية التربية جامعة المنصورة

حاصل على دورة إعداد معلم (TOT) من BRITCH FOUNDATION TRAINING LICENSE المعتمد من الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة

حاصل على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية