مقالات

الإنفلونزا الإسبانية في مصر

سنة ١٩١٨م، خريف السنة دي بدأ ينتشر فيه وباء الإنفلونزا الإسبانية في العالم كله، واللي ميعرفش وباء الإنفلونزا الإسبانية فهو وباء بيسببه فيروس H1N1.

وكان وباء غريب بيستهدف الشباب (ما بين ١٥ لـ٢٥ سنة) أكتر من كبار السن، وبيلعب على المناعة القوية، يعني كل ما مناعتك تقوى كل ما الفيروس يبقى أخطر، بفترة حضانة يومين بس يعني إنت تتصاب النهاردة بعد بكرة بالكتير نعزي فيك،

عشان تتخيل قوة الفيروس، تخيل فيه حوادث عربيات كانت بتحصل عشان الشاب اللي بيسوق اتصاب وهو سايق ومات جوة، فالعربية عوّمت وعملت حادثة!!

وباء مخيف حقيقي .. ما لم يكتبه المؤرخون عن وباء 1918 في مصر

وباء أصاب ما يزيد عن ٥٠٠ مليون وتسبب في مقتل ١٠٠ مليون في العالم في فترة صغيرة جدا، ولأنه جه في وقت حرب، الدول المتحاربة على رأسها “بريطانيا” منعت نشر الأخبار عنها عشان نفسية الجنود اللي على أرض المعركة،

ولولا إن الأخبار الإسبانية اتكلمت عنها ساعتها كونها مكانتش طرف في الحرب، محدش كان سمع عنها في التاريخ أصلا، تمام؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

في عز ما كانت الإنفلونزا الإسبانية منتشرة في أمريكا وأوروبا بالأرقام الكبيرة دي، مؤرخو مصر مذكروش أي تفاصيل عنها خالص، كتبهم فاضية، اهتموا فيها أكتر بأحداث سعد زغلول ونفيه وثورة ١٩١٩م اللي تزامنت مع الوباء في العالم،

يعني ببساطة التاريخ مجبش سيرتها في مصر وعمل من بنها، وكان المعروف إن الوباء مضربش مصر ونجت منه أو محصلش فيها إصابات، وكان ده المعروف لحد سنة ٢٠٢٠م يعني من سنتين بس.

إيه اللي حصل بقا؟

الباحث الأمريكي “كريستوفر روز” أستاذ التاريخ بجامعة تكساس بالصدفة كدة من سنتين شغله موضوع إن مصر مجابتش سيرة الإنفلونزا الإسبانية في التاريخ، فهل هي فعلا محصلش فيها الوباء ده وكانت خالية من الحالات؟ ولا فيه حاجة مستخبية؟

وبدأ بحثه بين مقالات الصحف وتقارير بريطانيا اللي عملتها لبحث أسباب ثورة ١٩١٩م وغيرها من الأبحاث هنا وهناك، زي لجنة ملنر المشكّلة للبحث في أسباب الثورة، لحد ما قدر يخرج بدراسة كاملة عن تجربة مصر مع وباء الإنفلونزا الإسبانية ونشرها السنة اللي فاتت.

وكانت المفاجأة .. الإنفلونزا قتلت عشرات الآلاف

 

الإنفلونزا الإسبانية

مصر اتصاب فيها نص مليون واحد على أقل تقدير بالإنفلونزا أيام ما كان ١١ مليون، مات بسببها أكتر من ١٧٠ ألف شاب ما بين ١٥ لـ٢٥ سنة، ورقم ممكن يكون أكتر من كدة بكتير، لكن غياب الإحصائيات مع ظروف الحرب والثورة صعبوا الموضوع، عشرات الآلاف من المتوفين في ٣ موجات للوباء أشدها الموجة التانية في أكتوبر ١٩١٨م، بواقع وفاة ١٪ من شعب مصر كله في شهرين لا أكثر!

يعني مصر شافت واحدة من أكبر الأوبئة انتشارا في تاريخها، وعانت أكتر من دول كتير مع المرض والوباء، ومات فيها عدد أكبر من وفيات كورونا في مصر لحد النهاردة أضعاف أضعاف الرقم، وإنت مكنتش تعرف عشان مفيش مؤرخ مصري اتكلم عنها بأمر من القيادة البريطانية عشان نفسية الجنود في الحرب متتأثرش بس.

كيف تعاملت بريطانيا مع الإنفلونزا الإسبانية؟

ومش بس كدة، بريطانيا لما لقت إن الأعداد بتزيد والوفيات بتزيد، زودت عدد ساعات عمل الأطباء اللي فاضلين في مصر عشان توصل لـ١٥ ساعة عمل يوميا محاولة لمجاراة الإصابات اللي بتزيد، وده اللي خلى الأطباء تشتكي وقتها من الضغط، وعلى أثر الوباء اتلغى احتفال مولد النبي في السنة دي، واتقفلت السينمات، والمدارس والأسواق، وحلت الفوضى في المكان.

واللي زاد وغطى إن سنة ١٩١٧م يعني قبل الأحداث دي بسنة واحدة، القائد البريطاني اللي هو “إدموند اللنبي” اتبعت عشان يقود التجريدة المصرية لحملة على الشام في عز الحرب، وهو كان بيخاف على ظباطه وجنوده الإنجليز أوي،

فلم كل القيادات والدكاترة من مصر وجند الشباب بالغصب للانضمام للجيش في الحملة دي، وده في وقت كانت مصر حامية بريطانية (مابين ١٩١٤ – ١٩٢٣) خدهم، وساب مصر على الله حكايتها.

ولإن القيادة كان فيها تخبط ومفيش قيادات إنجليزية في مصر، كلهم في الشام، بالدكاترة بالإنتاج الزراعي كمؤن للجيش، كانت الإجراءات اللي عملتها الحكومة المصرية مليانة عبث، يعني قفلت السينمات واستثنت المسارح، وسابت القهاوي، واكتفت بس بتحذير مكتوب ومتوزع إنك لو حسيت بأعراض الحمى اقعد في بيتك وخلاص، والناس أهملت الأخبار دي، لكن تداعياتها مسابتهمش في حالهم.

هل كان الوباء صعب فعلا على مصر؟

أقولك آه، وأكتر مما تتخيل، في الفترة دي الوباء فعلا كان صعب، واستدعى إن مصر تقفل الجهات الحكومية لأجل غير مسمى، وكذلك جامعة زي جامعة الأزهر اتقفلت في وش دارسيها، والمدارس في ديسمبر اتقفلت هي كمان واتمنع الطلبة إنهم يروحوا المدرسة ويقعدوا في بيوتهم،

ووراها دور القضاء والأسواق، والشوارع فضيت، والناس كانت خايفة فعلا من الحمى الإسبانية الجديدة دي، وصويت مالي الشوارع، وواحد تلاقيه ماشي في الشارع يكح ويقع يموت، والناس تدفنه، وماشيين يحفروا في مقابر عشان تقضي الأعداد، وهكذا.

اقرأ أيضاً:

أدب الأوبئة

علم إدارة الأزمات .. إنفلونزا الطيور

الخدمة الاجتماعية الطبية وإدراة الأزمات

الوباء ده كان مرعب حرفيا

الإنفلونزا الإسبانيةلا ومكنش في مصر بس ده خرج من مصر عن طريق سفن “قناة السويس“، عشان ينتشر في باقي الدول المجاورة زي بلاد الشام اللي بيسموه “عام السخنة” وزي الهند والعراق، في السعودية مثلا كانوا مسميينها عام الحمى، وقضت على قرى كاملة، ومن شدة الوباء إن الناس كانت بتخرج تقضي مصالحها وترجع تلاقي أهل بيتها كلهم ميتين،

الجمال كانت مُسخّرة بس لنقل الجثث، ١٠ آلاف متوفي في المدينة في كام يوم دي مصيبة، وحفر القبور كان الشغلانة الأساسية في مصر وفي السعودية في الفترة دي من كتر عدد المتوفين، وجاب في رجله شخصيات عامة زي ملك حفني ناصف في مصر وزي الأمير تركي ابن عبد العزيز، ومراته جوهرة، وغيرهم.

هل الحدث ده كان مهم على تاريخ مصر؟

أيوة، حدث بالحجم ده، والوفيات دي اللي كانت سبب غير مباشر في تصاعد الموقف الشعبي ضد الإنجليز، وكانت سبب في غلاء وصل لـ٣ أضعاف على العامل المصري اللي كان بيقبض معدل ٢٤٠ قرش شهريا ومصاريفه من أكل وشرب ٤١٤ قرش لنفسه ما بالك لو عيلة،

كل الضغوطات دي وهروب الشباب من التجنيد وهجر الأراضي الزراعية، والضرايب، والوباء، عملوا ثورة شعبية في الريف التحمت مع ثورة المثقفين في المدن اللي طالبوا بالإفراج عن سعد زغلول من النفي وكبرت وانضم ليها الشعب كله، باسم ثورة ١٩١٩م المعروفة، ومع ذلك محدش اتكلم عنها عشان عمو السير الإنجليزي قال لا.

يعني تخيل جدودك القريبين عاشوا إزاي في رعب ووفيات هنا وهناك وخطر حرب وخطر إنفلونزا، تبقى ماشي وجنبك واحد يقع يموت، ولا صف كامل يكح ويقع ومتبقاش عارف تجري تهرب ولا فاهم فيه إيه عشان مكتمين عليك،

ومدافن هنا وهناك وعائلات كاملة بتموت وبيوت بتفضى وممنوع تنزل الشارع وتخاف تقعد على القهوة ومفيش حكومة ومفيش مدارس ومفيش قضاء، وإنت يا حفيدهم معرفتش القصة دي غير بالصدفة عشان اللي عاشوا الزمن ده متكلموش بس ومحكوش اللي حصل.

التاريخ يخفي تفاصيل الإنفلونزا الإسبانية

كل ده غاب عنك ومتعرفهوش ومتقالش في التاريخ، لدرجة إنهم أقنعوك إن مصر مكنش فيها إنفلونزا إسبانية خالص والحياة زبادي في الخلاط، فصل كامل في تاريخ مصر إنت متعرفش عنه حاجة،

والصدفة قادت أمريكي في جامعة تكساس إنه يكشفهالك في البحث بتاعه، بعد ما جيلهم خلص ووراه كام جيل كمان، عشان تعرف واحدة من أكبر الأوبئة اللي حلت على تاريخ مصر، وأكتر من الكورونا ومن جدري القرود، جت وراحت وأخدت اللي أخدته ومشيت، والتاريخ محسسكش بحاجة.

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

**************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

محمد أمير

كاتب ومؤرخ وصانع محتوى