هل ثمة معنى للألم؟ .. “الإنسان يبحث عن المعنى”
قراءة كتاب “الإنسان يبحث عن المعنى” لعالم النفس النمساوي فرانكل قراءة مؤلمة، تمامًا كالتجربة التي يعرضها، الكتاب من الكتب النادرة التي تترك أثرًا مؤلمًا وشعورًا بالمرارة في أثناء القراءة وبعدها وبعد فترة من ترك الكتاب، ليس فقط لأنها تعرض تجربة تعذيبٍ واعتقالٍ وساديةٍ وقتلٍ للإنسان على يد رفيقه الإنسان داخل معسكر اعتقال، لكن أيضًا لأن القارئ يكتشف أن حياته في حالتها العادية خارج معسكر الاعتقال تتقاطع وتتشابه في أوجه كثيرة مع تجربة الاعتقال والتعذيب المؤلمة، خصوصًا في المجتمعات السلطوية المؤسسة على الخوف والإرهاب في الأحوال العادية.
بعد آخر مهم يطرحه الكتاب: هل من الممكن أن يكون للمعاناة والألم والتعذيب معنى؟ وهل من الممكن التعايش باختيار وكرامة مع تجربة إذلال رغم موت الإنسان داخليًا؟
السؤال الآخر المربك: هل الحياة تحولت بالفعل إلى معسكر اعتقال كبير وصار من الضروري التكيف مع هذه الحقيقة ولو بفلسفة الأمور والاعتماد على مدرسة العلاج بالمعنى التي أسسها مؤلف الكتاب؟
عن ماذا يتحدث كتاب الإنسان يبحث عن المعنى؟
يبدأ الطبيب النفسي فرانكل بعرض تجربة اعتقاله داخل أحد السجون النازية التي وصل التعذيب فيها لأقصى درجاته.
يرصد المؤلف التفاصيل النفسية الدقيقة لحياة الإنسان داخل معسكر الاعتقال، بداية من اقتياده مرورًا بحياته داخل معسكر الاعتقال، حتى تحليل آثار التعذيب على شخصيته بعد الإفراج عنه في حال خرج سليمًا.
السجناء تقع العقوبة عليهم على أساس عرقي، يُقتادون في قطارات إلى أماكن غير معلومة، لديهم خبرات سابقة أنه من الممكن قتلهم وحرقهم داخل هذه المعسكرات.
عند وصولهم إلى المعسكر يُفرزون، الصحيح الذي يستطيع العمل يُستغل في أعمال شاقة، والمريض يُقتل ويُصفى.
النوم في عنابر يتلاصق فيها المعتقلون بالمئات، وكل معتقل ينام على جنبه ملتصقًا بالآخر، يُوقظون أواخر الليل بقسوة ويخرجون للعمل في البرد القاسي من الفجر حتى الليل، اعتمادًا على كسرة خبز وبعض الحساء، وعلى كل معتقل أن يظهر قدرة على العمل وإلا القتل والتصفية مهما بلغ الأمر من تعب أو تجمد في الأطراف أو حتى مرض.
يرصد الكاتب بدقة التطورات النفسية التي يمر بها المعتقل.
البداية تكون بالصدمة والاستسلام والفضول والاستطلاع لمصيره، ثم مرحلة البلادة التي تجعل الإنسان لا يتأثر بمعاناة رفاقه من كثرة ما شاهد من عمليات تعذيب أمامه، حتى لو بُترت أعضاء رفاقه أمامه.
النكوص لمستويات بدائية مثل النجاة ومحاولة البقاء حيًا، والتفكير في كيفية احتفاظه بطعامه لأطول فترة ممكنة.
يخرج السجناء في حشد للعمل ويصير هم كل سجين أن يحمي نفسه وسط الحشد حتى يتجنب ضربات الحراس على أطراف الحشد.
البحث عن المعنى في قلب المأساة
من أسوأ الخبرات التي يرصدها المؤلف في حياة المعتقل، لحظات إهانة إنسانيته وتحويله إلى رقم، دون أي اعتبار لكونه إنسان، وفي ذلك يصف الكاتب تجربته عندما شرد قليلًا بفكره في أثناء العمل، فما كان من الحارس إلا أن قذفه بحجر، ومرة صُفع كحيوان.
الخبرة المريرة أيضًا التي يعرضها المؤلف، خبرة لا نهائية الألم وانعدام الشعور بالزمان، فتجربة الاعتقال ستنتهي يومًا ما، لكن متى؟ لا يدري المعتقل! مما يولد داخله حالة من اليأس والإحباط الوجودي والشعور بعدمية الحياة، ولجوء المعتقل للاستسلام وربما الانتحار ولمس الأسلاك الكهربائية. والأخطر من ذلك انعدام الأمل في المستقبل.
أمام تجربة الاعتقال القاسية لا يجد المعتقل سوى الماضي بتفاصيله كلها ليهرب إليه: زوجته، أطفاله، الأتوبيس الذي كان يستقله، باب شقته القديمة.
تجربة الألم العميقة هذه يحاول المؤلف الطبيب النفسي بقدر الإمكان محاولة سبغها بالمعنى والجدوى والجدارة في تحمل المعاناة والألم.
مدرسة العلاج بالمعنى التي أسسها ضحية النازية
من هنا تنبثق جذور مدرسة العلاج بالمعنى، وهي مدرسة فيينا الثالثة التي أسسها “د. فرانكل”، وتعتمد المدرسة على جعل الحياة جديرة بالعيش مهما كانت درجة ألمها.
لكي يتحمل الإنسان ألم تجربته سواء داخل معسكر الاعتقال أو خارجه يجب أن يحصن ذاته بالمعنى، والمعنى هنا لا يكمن داخل الإنسان بل بالأسئلة التي توجهها إليه الحياة، قد يكون المعنى في أسرة أو عمل إبداعي أو أطفال أو رجوع إلى حبيب أو حتى الحب ذاته، وهو من العوامل التي ساعدت فرانكل ذاته على الصمود داخل معسكر الاعتقال؛ حبه لزوجته حتى لو ماتت، وأيضًا تصميمه على استكمال مخطوطه وعرض تجربته. إذًا المعنى يختلف من شخص لآخر. وحتى عندما تضطر الظروف الإنسان إلى التوقف عن النشاط الإبداعي أو المتعة السلبية عليه أن يتحلى دائمًا بأمل الإبراء للحظة الأخيرة.
يتجاوز فرانكل أيضًا مرحلة المعنى المرتبط بالإبداع والحب والأسرة إلى الجدارة في الصمود أمام ألم الحياة ومواجهتها بعزة وكرامة، ولو توقف الأمر على مساعدة الآخر في إيقاف معاناته.
التسامي بالذات كظاهرة إنسانية
ربما يتصور البعض بعد قراءة الكتاب أن الأمر لا يعدو كونه نوعًا من الوعظ وطريقة لتلطيف الألم، لكن جمال تجربة فرانكل ومدرسته يتمثل في الوقوف مع الإنسان في أقصى درجات ألمه، ومحاولته تقويته وتحويل يأسه وشعوره بالعدمية إلى نوع من الجدارة والكرامة في مواجهة معاناته التي تبدو له بلا نهاية.
من الضروري بمكان أيضًا وضع مدرسة فرانكل في العلاج بالمعنى في تكامل مع مدرسة فرويد التي ركزت على احتياز الشعور وإخراج التجارب الأليمة خارج نطاق اللا شعور للتخفيف، وأيضًا مدرسة آدلر التي ركزت على تربية الإنسان على حس التعاون وتجنب التدليل والحرمان، وله كتاب آخر بعنوان “معنى الحياة”، وأضيف أيضًا مدرسة إريك فروم الذي بحث في جذور السادية والنرجسية عند الإنسان ومحاولة التحكم في السياق الذي يضخمهم.
في النهاية أود الإشارة أن الحياة في المجتمعات السلطوية والشمولية، لا تختلف كثيرًا عن الحياة داخل معسكر الاعتقال، والمواطن العادي في المجتمع الاستبدادي يمر بالمراحل نفسها التي يمر بها سجين المعسكر من: بلادة واستسلام، وعنفه وخوفه من الحرية وصراعات بينية مع رفاقه وشعور بالدونية والنقص وشعوره الدائم أنه لا شيء وأنه محض رقم في ملف. ومن هنا تكمن أهمية هذا الكتاب.
مقالات ذات صلة:
هل من سبيل للخلاص من المعاناة؟
العلاج النفسي المعرفي أم العلاج الدوائي
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا