الإنسان والاتباع الأعمى – أثر البيئة في فكر وسلوك الإنسان
يعتقد البعض أن الإنسان ابنا لبيئته؛ بمعنى أن رؤيته للحياة وسلوكياته تتشكل نتيجة للبيئات التى أثرت فيه وبالتالي البيئة التى ننشأ بها هي التي تحدد مصير الإنسان وسعادته وشقائه، ولكن إذا أمعنَّا النظر في هذا التعريف سنجد به خلل كبير؛ لأنه ينفى عن الإنسان حرية الإرادة..
كيف ذلك ؟ لأننا طبقا لهذا التعريف نجعل الإنسان مجرد مُتلقِّي لما يتم غرسه فيه وننفي عنه حرية قبوله أو رفضه لما يتم تربيته عليه من قيم وأفكار وسلوكيات.
كما أننا إذا قمنا بعمل استقراء بسيط للواقع سنرى أن الكثير من الأفراد الذين ينشأون فى نفس البيئة كالتوائم مثلا لديهم رؤى مختلفة تماما للحياة وقد تصل إلى حد التناقض التام، كما أننا نجد كثيرًا من المفكرين والمصلحين لهم من الأفكار ما يتعارض تماما مع ما حاول المجتمع ترسيخه فيهم، وبناءًا عليه فرؤية الإنسان للحياة والغاية منها تتشكل نتيجة لتفاعله أو”رد فعله” تجاه ما يتعرض له في البيئات المختلفة من سلوكيات وأفكار وثقافات طوال حياته .
أثر البيئة في سعادة الإنسان وشقائه
ولكن هل هذا يعني أن البيئة والتربية لا تؤثران في فكر وسلوك الإنسان ومن ثم سعادته وشقائه ؟
بالطبع لا؛ فتأثير البيئة والتربية والثقافة السائدة في مجتمع ما تشكل كثير من أفكار وسلوكيات أبناء هذا المجتمع ولكن في لحظة ما ينضج عقل الإنسان ويستيقظ من هذا العقل الجمعي ليتساءل عن مدى صحة هذه الأفكار والسلوكيات وعمَّا إذا كان اتباع هذا النهج السائد سيحقق السعادة المنشودة أم لا؟!
صحيح؛ قد لا يجد الكثير في نفسه هذه القوة التى تعينه على الاستيقاظ من الغفلة والتساؤل فيحتاج لمن يوقظه ويثير فضوله ويشعره بخطورة الاتباع الأعمى وهذا هو دور الأنبياء والمصلحين والمفكرين. ولكن حتى في وجود هذا الصالح المصلح المربي؛ لازال المجتمع حر في تقبله واتباعه على بصيرة أو لفظه من المجتمع والتمسك بما وجدوا أنفسهم وآباءهم عليه .
الدور الحقيقي للمربي
مما سبق يمكننا أن نستنتج أن دور المربي أوالمصلح يكمن أولا في التأكد من فهمه الصحيح لما هو الخير الحقيقي المؤدي لصلاح الفرد والمجتمع وما هو الشر الحقيقي المؤدي لفساده،
ثانيًا فهم طبيعة المجتمع والثقافات والعادات المتجذِّرة فيه، ثالثًا فهم آلية تغيير الأفكار والعادات السيئة مع فهم الزمن المناسب للوصول للتغيير المطلوب لأن ما تم غرسه في سنوات لا يمكن تغييره إلا بتدرج يتناسب مع هذه السنوات.
أخيرًا وهذا هو الأهم؛ أن يدرك المصلح أو المربي أنه ليس مسؤولا عن صناعة التغيير ولكنه مسؤول فقط عن تأدية دوره في نصح وإرشاد ومساعدة أبنائه وأبناء مجتمعه.
وقد قلنا أن النقطة الأخيرة هي الأهم لأننا نجد كثيرًا من الآباء يُحمّلون أنفسهم ما لا يُطيقون بالرغم من كونهم قاموا بما في وسعهم لتربية أبنائهم، كما أننا نجد كثيرًا من المصلحين يرون في إجبار أفراد المجتمع على الصلاح حل أمثل طالما أنهم لم يتقبلوا الصلاح عن طيب خاطر، وهنا أَغفَل الطرفان ما ميز الله به الإنسان عن غيره من الموجودات ألا وهو العقل الذي يختار به الإنسان إما طريق الحق والخير والصلاح فيفوز ويرتقي بكامل إرادته أو يختار الفاسد والتسافل أيضا بكامل إرادته.
بين الاتباع الأعمي واتباع العقلاء
قد يتساءل البعض وما الفرق بين اتباع السائد وما وجدنا عليه آباءنا وبين اتباع مفكر أو مصلح ما! أليست النتيجة واحدة وهي تكوين عقل جمعى جديد ؟!
قبل أن نجيب على هذا السؤال؛ علينا أن نتفق على مقدمة ضرورية وهي أن الإنسان ناقص علم وقدرة وبحاجه لمن يعلمه ويرشده لما فيه الخير والصلاح هذه نقطة. أما عن إشكالية العقل الجمعى والتبعية العمياء؛ فهذا ينقلنا لتوضيح الفرق بين الاتباع الأعمى والاتباع العاقل.
أما عن الاتباع الأعمى فهو عبارة عن التزام بمجموعة من الأفكار والعادات لمجرد أننا وجدنا كثيرين غيرنا ملتزم بنفس الأفكار والسلوكيات ودون أي مرجح على كون قائلها عالم حقيقي واتباعه سيؤدي حقا إلي السعادة والعدالة المنشودة،
أما الاتباع الثاني “العاقل” فهو ناتج عن يقين بكون هذه الأفكار والسلوكيات تحديدا هي التي ستؤدي حتما إلى السعادة والعدالة المنشودة بدليل أن قائلها هو الأعلم بالفعل وليس لمجرد أنه المشهور بكونه الأعلم . أما عن كيفية معرفة الأعلم والتأكد من صحة الفكر والسلوك؛ فلهذا حديث آخر إن شاء الله .