في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر، في أواخر العصر الفيكتوري (Victorian Era)، كان ثمة من يعتقد أن المعرفة البشرية سوف تكتمل قريبًا. لم تكن هذه الفكرة غير مبررة على الإطلاق، فلقد قفز العلم نحو حدود بعيدة في غضون بضعة عقود، وبُحِث أخيرًا الطب ومورِس بما يتماشى مع الأدلة، ووسعت الصناعة من القدرة الإنتاجية على نحو كبير، وفتحت وسائل النقل الآلية بوابات العالم، كانت الإنسانية في حالة تحرك!
ربما كان هذا التقدم والثقة التي صاحبته أكثر وضوحًا في الفيزياء، لقد أحدثت المفاهيم الأساسية في الكهرومغناطيسية والديناميكا الحرارية والميكانيكا تحولًا في هذا المجال، ففي غضون بضعة عقود، رُسمت خرائط الرؤية العلمية للعالم المادي بدقة لا تصدق، مما نقل العلم من السعي شبه الصوفي نحو حقائق أبدية غامضة إلى آلة لا تعرف الرحمة لعمل تنبؤات دقيقة بخصوص كل شيء يمكن ملاحظته. ولم يكن هذا التقدم السريع ليمر دون أن يلاحظه أحد من العاملين في هذا المجال، فعلى الرغم من أنه كان هناك بالتأكيد كثير ممن شعروا بخلاف ذلك، فبعض العمالقة في مجال الفيزياء بات بإمكانهم رؤية اكتمال مشروعهم على مسافة قريبة. في محاضرة ألقاها سنة 1899، كان الفيزيائي الأمريكي المعروف «ألبرت ميكيلسون» (Albert Michelson) واثقًا بما يكفي ليقول إن «القوانين والحقائق الأساسية الأكثر أهمية في علم الفيزياء قد اكتُشِفت جميعًا، وقد أصبحت هذه القوانين الآن راسخة لدرجة أن إمكانية أن تحل محلها اكتشافات جديدة أمرٌ بعيد للغاية»! وقبل عشرين عامًا، قال معاصره الألماني «يوهان فيليب جوستاف فون جولي» (Johann Philipp Gustav von Jolly) لـ«ماكس بلانك» (Max Planck) الشاب: «في هذا المجال، اكتشفنا كل شيء تقريبًا بالفعل، وما تبقى كله ملء بعض الفجوات غير المهمة». ومهما كان أقرانهم أكثر حذرًا، فإن هذه الفكرة الأساسية –القائلة بأن مشكلات الفيزياء كافة قد حُلَّت بشكلٍ أو بآخر بحلول أواخر العصر الفيكتوري– تعكس تيارًا حقيقيًا فاعلًا داخل الأوساط العلمية.
في علم الأحياء أيضًا، رحبوا بنظرية التطور بوصفها نظرية علمية تُمثل جزءًا كبيرًا من المشروع البشري، إن فكرة الانتخاب الطبيعي بوصفها المفتاح الأساسي لعلم الحياة أصبحت منتشرة على نطاق واسع بين أغلب علماء البيولوجيا. بالطبع كان هناك دائمًا مزيدٌ من العمل الذي يتعين فعله، لكن مفهوم التطور لم يكن يبدو خطوة متكررة في مسيرة طويلة، بل كان أشبه بالوصول إلى قمة الجبل. والأكثر من ذلك، أنه على الرغم من أن كتاب «تشارلز داروين» (Charles Darwin) «أصل الأنواع» (On the Origin of Species) لم يتطرق إلى القضايا الاجتماعية البشرية، فإن نظريته سرعان ما امتدت لتشمل هذه القضايا. كتبت الباحثة في العصر الفيكتوري «كارولين بورديت» (Carolyn Burdett): «لقد وجد عديدٌ من الفيكتوريين في التفكير التطوري رؤية للعالم تبدو كأنها تناسب تجربتهم الاجتماعية الخاصة. كانت نظرية داروين للتطور البيولوجي وسيلة قوية لوصف الاقتصاد الرأسمالي التنافسي في بريطانيا، إذ أصبح بعض الناس أثرياء للغاية، في حين عانى آخرون الفقر المدقع». وهكذا كان التقدم في العلوم بمنزلة دعم أخلاقي لعدم المساواة المترامية الأطراف في المجتمع الفيكتوري.
بحلول نهاية العصر الفيكتوري، كان الفيلسوف الإنجليزي «برتراند راسل» (Bertrand Russell) منشغلًا برسم خرائط المبادئ الأساسية للرياضيات وردها إلى المنطق الصوري، وأُثبِتت إمكانية الحوسبة الرقمية (Digital Computing)، إذ استُخدِمت دوائر التبديل الكهربائية (Electrical Switching Circuits) للتعبير عن العمليات المنطقية الأساسية. وسواء وُصِفت بعض المجالات العلمية أنها قد اكتملت، أو وُصف بعضها الآخر أنه في مهده، فقد كان الجميع على قناعة بأن البشرية قد خطت خطوة تاريخية إلى الأمام.
إن هذا الشعور بأن الجنس البشري قد تقدم إلى حافة عالم جديد لم يكن يتملك العلماء فقط، بل ساد شعورٌ مماثل أيضًا بين الشعراء، وإن كان أحيانًا متناقضًا. على الجانب المتفائل، تخيلت الشاعرة الإنجليزية «سارة ويليامز» (Sarah Williams) في قصيدتها «الفلكي القديم لتلميذه» (The Old Astronomer to His Pupil 1868)، لقاءً مع عالم الفلك الدنماركي في القرن السادس عشر «تيكو براهي» (Tyco Brahe)، وكتبت تقول: «قد يعرف قانون الأشياء كلها، لكنه يجهل كيف، ونحن نعمل على استكمال المسيرة، نعمل منذ ذلك الحين وحتى الآن». كما كتبت بثقة إن روحها سوف «تشرق في النور الكامل» بمرور الوقت، تمامًا مثل تقدم العلم. أما الشاعر الفيكتوري «ألفريد لورد تينيسون» (Alfred Lord Tennyson)، فقد هيمنت عليه حالةٌ تشاؤمية تجلت في كتاباته، لقد تنبأ بالمنظر الطوباوي في عمله المبكر «قاعة لوكسلي» (Locksley Hall) الذي نُشر في السنوات الخمس الأولى من حكم الملكة فيكتوريا، إذ تُصور القصيدة رجلًا متيمًا يبحث عن علاج لحزنه ويتخيل المرحلة التالية من التطور البشري، ويشعر بالاستسلام للعيش في عالم على شفا تغير تاريخي. يصف «تينيسون» هذا التطور بقوله: «يذبل الفرد، وتزدهر الدنيا أكثر فأكثر». وبغض النظر عن تشاؤميتها، فإن قصائد «تينيسون» تعكس ذلك العالم المتوسع والخانق الذي شهد تقدمًا متسارعًا في العلوم الطبيعية والاجتماعية، كان الفرد يذبل لأن فرض التقدم أصبح لا مفر منه أكثر فأكثر!
شهد الزمن المتأخر من العصر الفيكتوري أيضًا اقتراب الإمبراطورية البريطانية من ذروتها، وهي الإمبراطورية التي كان تُعد نفسها ذات صلة قوية بالحضارة. بالنسبة إلى الأشخاص الذين تمكنوا من تحديد التقدم في ذلك الوقت، كان التقدم مقتصرًا على نحو طبيعي على الشعوب البيضاء، والشعب البريطاني على وجه التحديد. إن استعباد جزءٍ كبيرٍ من العالم، وحقيقة أن الشمس لا تغرب أبدًا عن الإمبراطورية البريطانية، كان يُنظر إليه على أنه اتجاه حضاري من شأنه أن يضع البلدان المتخلفة في العالم في كنف هذا التقدم البشري الذي تقوده دولة واحدة، وقد أثار اليوبيل الماسي للملكة فيكتوريا سنة 1897 قوائم طويلة من إنجازات الإمبراطورية، بما في ذلك المسار الثابت نحو الحرية والديموقراطية، وإن كان المعني بالتطبيق قطعًا صاحب البشرة البيضاء فقط!
ثم جاء القرن العشرون!
يلاحظ المطلعون على تاريخ العلم أن ثمة مفارقة في تصريح «ألبرت ميكيلسون» الواثق. لقد كانت «تجربة ميكلسون–مورلي» (Michelson–Morley experiment)، التي أجراها مع نظيره الأمريكي «إدوارد مورلي» (Edward Morley)، هي التي أثبتت عدم وجود الأثير (Aether)، وهي المادة التي من المفترض أن تنتقل عبرها موجات الضوء. لقد كشفت التجربة عن وجود ثغرة في قلب الفيزياء، ومن بين أمور أخرى، ساعدت قدرة الضوء على السفر دون وسيط في إثبات هويته المزدوجة كونه جسيمًا وموجة، وهي حالة لم يكن من الممكن تصورها في السابق. وكانت الألغاز التي طرحتها تلك التجربة هي التي قادت «آلبرت أينشتاين» (Albert Einstein) إلى النسبية الخاصة (Special Relativity)، التي قوضت –عند إعلانها سنة 1905– تلك القوانين والحقائق الأساسية التي كان «ميكلسون» قد عدَّها أخيرًا راسخة. إن الفيزياء النيوتونية التي حكمت فهمنا للميكانيكا لا تزال تُثمر نتائج دقيقة في العالم الكلي، لكن فهمنا للهندسة الأساسية للكون تغير إلى الأبد، لقد اتضح أن ما اعتقده بعض علماء الطبيعة أنه ذروة الفيزياء كان الرمق الأخير لنموذج المرض الميؤوس من شفائه!
كانت هذه، في نهاية المطاف، نهايةٌ سعيدة: قصة التقدم العلمي، لكن التاريخ الأوسع لما أعقب الانتصار الفيكتوري لم يكن مبهجًا إلى الحد المتوقع، ففي النصف الأول من القرن العشرين، عانت البشرية حربين عالميتين، استفادت كل منهما من التقدم التكنولوجي في ممارسة فظائع لا يمكن تصورها من التدمير وإراقة الدماء، كما أن الجهود التي بذلها الداروينيون الجُدد لتحسين النسل والحفاظ على العرق والتخلص من الفقراء والمرضى، التي برَّروها بمحاكاة ساخرة قاتمة لنظرية داروين في التطور والانتخاب الطبيعي، اكتسبت زخمًا قويًا على نطاق غير مسبوق، وبسبب عالم أصبح أصغر فأصغر يومًا بعد يوم، تعاظمت قوى الهيمنة والتحكم، وتجلى الكساد الأعظم الذي أصبح ممكنًا عن طريق التطورات الجديدة في الآلية المالية وأنماط الجشع الجديدة، وانقسم العالم إلى كتلتين متعارضتين مسلحتين نوويًا، كل منهما تأسست على فلسفة أخلاقية عدَّها أتباعها منيعة، وكل منهما على استعداد تام لذبح الأبرياء من أجل قدر ضئيل من النفوذ!
في الأحوال كلها، نستطيع القول إن عالم الأفكار الذي بدا حتى وقت قريب كأنه يعد بعصر طوباوي، كان بدلًا من ذلك متواطئًا في معاناة لا يمكن تصورها، ومن المعروف أن النازية نشأت في بلدٍ كان بعضهم في أواخر العصر الفيكتوري يقول إنه الأكثر تقدمًا في العالم، ولم يكن نظام «أدولف هتلر» مدعومًا بعلم تحسين النسل وتاريخ اليهود فقط، بل أيضًا بالقصائد والسمفونيات والفنون الشعبية، وتقنيات تطوير الأسلحة والصواريخ. لقد أدى التقدم الفكري إلى الموت بطرق مقصودة وغير مقصودة! قد تجد أنه من الصعب إلقاء اللوم على التقدم فيما يتعلق بجائحة الإنفلونزا الإسبانية (Spanish Flu)، لكن الحقيقة أن ظهور خطوط السكك الحديدية العابرة للقارات والسفن التي تعمل بالوقود الأحفوري كان مفتاحًا أساسيًا للجائحة!
وسط هذه الفوضى كلها، انقسم عالم العقل أيضًا، لقد ارتبط التقدم بانهيار المعنى وزوال الحقائق التي كان يُعتقد في السابق أنها مؤكدة، ففي الفنون البصرية (Visual Arts)، هرب الرسامون والنحاتون من التصوير المباشر للواقع البصري، إذ كان الانطباعيون (Impressionists) والتعبيريون (Expressionists) الذين سبقوهم يبتعدون عنه بحذر شديد، وكانت النتيجة فنانين مثل الرسامين الأمريكيين «مارك روثكو» (Mark Rothko)، و«جاكسون بولوك» (Jackson Pollock)، المشهورين بترك المشاهدين في حيرة من أمرهم. وفي الأدب، كسر كتّاب مثل الإنجليزية «فيرجينيا وولف» (Virginia Woolf) والآيرلندي «جيمس جويس» (James Joyce) القواعد الداخلية لرواياتهم بكل سرور كلما أعجبهم ذلك، أو (في حالة متطرفة كما في رواية الأخير «يقظة فينيجان» (Finnegan’s Wake)) لم يكلفوا أنفسهم عناء تأسيسها في المقام الأول. كذلك نزع فلاسفة مثل «لودفيج فتجنشتين» (Ludwig Wittgenstein) أحشاء محاولات الجيل السابق (مثل محاولات راسل لتأسيس لغة مثالية عن طريق نظرية الذرية المنطقية (Logical Positivism))، لإجبار العالم على هيكل مناسب للاستخدامات البشرية، وفي الرياضيات، فعل «كورت جودل» (Kurt Gödel) الشيء ذاته. لقد كانت عقاقير الفطرة السليمة تتلاشى بأعدادٍ كبيرة، ولم يعد أحد يقول إن العالم قد اكتُشِف بعد الآن! وفي العالم الأوسع، سنعيش جميعًا في ظل المحرقة!
يتبع…
مقالات ذات صلة:
القيم الخُلُقية وصناعة المعرفة العلمية
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا