إصداراتمقالات

الإكتئاب والعمل

كثيرا ما ينصح الأطباء والمعالجون من يصاب بالاكتئاب بالانخراط في سوق العمل. وهذا الأسلوب ينجح في كثير من الأحيان، لكن لماذا؟ ولماذا يمكن له أن يفشل؟

إن الوجود في وسط عمل، يتسم بشيء من الانضباط، ووجود تكليفات بشكل مستمر، ووجود من يستعجلك ويراقب أداءك، لن يتركك في بئر أحزانك وهمومك المظلم. وكلما كان هذا العمل راقيا ومجزيا، كلما ساعدك هذا على الشعور بتحسّن. إن هذا أمر مهم جدا عندما يكون ضابط الإيقاع الداخلي عند المصاب بالاكتئاب متعثرا مضطربا، فبوجود ضابط إيقاع خارجي يستطيع الداخلي عمل تزامن معه واستعادة ثباته واستقراره لتوجد الثقة في الاعتماد عليه بشكل مستقل في إقامة إيقاع حياته كفرد وكناظم لأسرة أو مكان عمل مستقبلا.

هناك أيضا آخرون، زملاء، أقران، أصدقاء، هناك حركة وأحداث في الحياة، اهتمامات مشتركة، أشياء تراها وتحفزك على العمل من أجل حيازتها، مصاريف على أشياء اجتماعية ومظهرية، تجعلك متصلا بحركة الاقتصاد، تشعرك بالحاجة للكسب لتغطية نفقاتك وتطلعاتك. كل هذا يكسبك لياقة اجتماعية وخبرة تضاف إلى التعريف الوظيفي الخاص بك، وتمنحك بعضا من الثقة في نفسك. هذه الأمور تقل كلما كنت وحيدا، منفصلا عن الناس، تعمل بشكل انفرادي عندما تنجح في تجاور عواصف الاكتئاب العابرة التي لا تحذرك منها هيئات الأرصاد مسبقا، تلك العواصف التي تجعل لديك ميولا “نيرونية”، وتتسبب في إحراجك أمام من لديك التزامات تجاههم ومن يحاولون مساعدتك.

مما سبق طبعا ندرك أن “العمل” متفاوت في مدى فائدته وقدرته على التأثير على حالة الاكتئاب، وفقا لعدة عوامل ذكرنا بعضا منها. وليس عمل من يعمل عن بعد بالمراسلة مثل عمل الذي يذهب لدوام يومي يعمل فيه مع فريق متكامل لإخراج منتج نهائي. إنّ شعور الوحدة في حد ذاته يحتاج لمدافعة مستمرة. ومن السهل عمل استقراءات ودراسات تؤكد هذه الحقيقة الساطعة، أن العمل يساعد الإنسان على الحفاظ على صحته النفسية وأن البطالة خطرة.

لكن ماذا عندما يكون الإنسان ناجحا في عمله/دراسته، ولديه مستقبل باهر ووضع مميز اجتماعيا، لكنه يفتقد للقيمة والمعنى في حياته؟ ماذا يكون دافعه للاستمرار عندما يشعر أن القيم والمعاني تموت، حتى لو كانت قيمة الفن، أو الحب، وأنه لا أحد يكترث، فالكل يجري في المسار الذي رسمه لهم أصحاب المال والأعمال، لتحقيق الأرباح على حساب أي شيء، وكل شيء. كيف يكون شعوره وسط حياة تنحدر فيها الحضارة وتموت وسط كم متزايد من الجهل والزيف والوهم.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

هذا النوع من اليأس الفكري الموصل للاكتئاب، ليس بوسع الأدوية أن تعالجه، ولا وسط العمل الإيجابي المحفّز، ولا المستقبل الشخصي الواعد… دعنا نبسط المسألة: إذا آمنت أن كارثة طبيعية ستصيب مكانا معينا فتدمّر الحياة فيه عن بكرة أبيها: هل ستهتم بإعلانات العقارات في أكثر الأماكن تميزا/مناسبة في هذه “المخروبة” باعتبار ما سيكون؟ هل ستحب أن تستثمر عمرك ومالك وطاقتك فيما تعرف حتما أنه سيتبدد ولن يبقى لك منه شيء؟ حالة شبيهة بتلك الحالة التي وصفها جبران خليل جبران عندما قال: “العصفور لا يبني عشًا في القفص حتى لا يورّث ابنه العبوديّة”.

ربما كانت هذه حالات متطورة من الاكتئاب أميل للندرة. لكن ماذا عن الحالات الأكثر انتشارا، ماذا عن حالة الشباب والفتيات الذين يتهيبون إقحام أنفسهم في علاقة زواج خوفا من أن تبتلع حياتهم وطموحاتهم بالكامل، ماذا عن نظم التعليم –الفاشلة- التي تستهلك قدرا كبيرا من وقت الإنسان وطاقته وتقوم بتهميش الأشياء التي يراها البعض مميزة لهم مثل الشغف والقدرة على الإبداع، أو مهمة عموما مثل الاتصال بالواقع والقيمة المضافة للإنسان، القيمة الحقيقية من الفهم والقدرة على حل المشاكل وتطبيق ما تمت دراسته على أرض الواقع، لا القيمة الاعتبارية التي تمثلها الدرجات والشهادات. طبعا هناك أيضا الحالات التي يكون فيها الإنسان شاهدا على ذبول جسده، نتيجة لتقدّم السن أو المرض.

والأسلوب الصحيح للتعامل مع كافة المشاكل والمخاوف يبدأ بتحديد هل المسبب فعلا موجود أم لا، وما حجم المشكلة الحقيقي، ثم تحديد ما إذا كان ينبغي مواجهتها أم التأقلم معها. والناس ليسوا سواءً في هذا، وهذه نقطة مهمة. إن التصدي لبعض القضايا والمشاكل يكون واجبا على القادر على تحليلها وفهمها، بينما يكون إهدارا غير مطلوب لطاقة غير المؤهّل.

________________________________________________________________________________

-عامل المحطة: “أنت تبدو كما لو كنت تأخذ الموت البطيء للقيم التي تؤمن بها على محمل شخصي”

البروفيسور: “هذا ما يصنعه التعليم في الإنسان”

-في لقطة أخرى يقول عامل المحطة للبروفيسور: “لا أعتقد أن الأمور التي لا تؤمن بها هي المشكلة، وإنما الأمور التي تؤمن بها”

-وفي عبارة معبرة يقول له: “إن هؤلاء الآخرين الذين ينتحرون يفعلون ذلك لأنهم ينتابهم شعور سيء وحسب، أنت تعرف ما هو السيء وما سبب كونه سيئا، إن لديك أسبابا أكثر “ذكاءً” للانتحار، أسباب مصاغة بمستوى عالمي”

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

في فيلم The Sunset Limited  يتم عرض حوار بين رجل مريض بالاكتئاب – يقوم بدوره الممثل تومي لي جونز – وهو بروفيسور جامعي ذو منهج معرفي تجريبي لا يؤمن بوجود ما وراء عالم الشهادة، وبين عامل في محطة القطارات – صامويل جاكسون – غير المتعلم وصاحب المنهج المعرفي الأقرب للإشراق[i].. بعد أن حاول المكتئب الانتحار بالإلقاء بنفسه تحت عجلات القطار، لكنه ألقى بنفسه بين يدي العامل بدلا من ذلك، واصطحبه العامل إلى شقته الصغيرة المتواضعة التي تدور فيها كافة أحداث الفيلم. هذا الحوار كما درسنا في مناهج مشروعنا بالعقل نبدأ لا يمكن له أن ينتج، إذ أن المنطلقات المعرفية ومنهج المعرفة لكل من الرجلين متباينة، كل ما كان ممكنا لهذا الحوار أن يفعله هو بعض من تطييب الخاطر وزرع للشكوك بشأن الرؤية الكلية القاتمة التي يمتلكها البروفيسور.

لقد كانت لدى البروفيسور رؤية كلية ذات صبغة علمية، مدعمة باستقراءات تاريخية ترى التاريخ عبارة عن سلسلة من القبح والقهر والدموية، مسيرة تردّي للإنسانية وانهيار للمعنى يقابله تقدّم مادّي شكلي في أدوات القهر والسيطرة والاستعباد، هذا التقدّم الشكلي يمدنا بغرور الناجحين المتفوقين فلا نرى مدى ما وصل إليه الفساد المتجذّر في المضمون. وأنه لا حول لنا ولا قوة أمام هذا التوجه غير العاقل، فهو بالإضافة لكل ما سبق مدعوم بمصالح أصحاب رؤوس الأموال الذين لا يكترثون إلا لأرباحهم.

وبغض النظر عن مدى صحة هذا التصوّر، فإنه يهمل تماما الماوراء، وهذا وضع لا يستقيم معه الحال عمليا، ناهيك عن فساده منطقيا.

يقول المسيري: “الإنسان لا يتجاوز الألم إلا من خلال إيمانه بشيء ما يتجاوز ذاته الضيقة”. هذا الإيمان يجب أن يكون مدعوما بحجة قوية وإلا فإنه من الصعب أن يصمد أمام الاختبارات الحقيقية التي تكون قوية الحضور ثقيلة على نفس الإنسان، كمقاتل ضخم الجثة متمرس يدخل ساحته متحديا، فيفتك بالمدافعين المصابين بالهزال بلا أدنى قدر من العناء، بينما يتوقف متهيبا المدافع الصلد، ويلجأ للخدع والحيل أملا في أن يوقعه أو ينهكه ليتجاوزه مقتحما حرم العقل ومعلنا انتصاره. وليس هذا المدافع إلا البرهان الراسخ الذي يثبت به كون القيم حقيقية، بل لها الأولوية على الوجود المادي المؤقت، ولهذا فتدعيمها في نفس الإنسان ومعايير المجتمع دائما مُجدي، وانتصارها متحقق نظريا، أما عمليا فالأمر في حاجة للاجتهاد الفكري والتطبيقي، تماما كما يجتهد مخترع في تحويل فكرته النظرية إلى تصميم ثم إلى نموذج تجريبي ثم إلى منتج نهائي متغلبا على صعوبات عدة علمية واقتصادية وتسويقية… إلخ.

والبشر ليسوا سواءً في عمق فهمهم وإدراكهم، ولا في عمق شعورهم بالحزن والفرح. أصحاب العقول العميقة يشعرون بالاختناق وعدم القدرة على الانطلاق عند التعامل مع الثقافة والأطروحات الفكرية الضحلة كالحيتان إذا تخيلنا وجودها في البرك والمستنقعات، وأصحاب الحس المرهف كذلك معايشتهم للحزن والسعادة تكون أعمق وأكثر تفصيلا. والحلول السطحية كثيرة وغير مؤثرة، بل إنها تزيد البائس بؤسا لما يجده من عدم إدراك “العالم” لطبيعة ألمه وعمقها.

والعمل؟؟

إنّ النهاية الوحيدة لهذه المعضلة ليست عند الاعتياديين، وإنما عند المتميزين، الذين يشعرون بهذه الآلام في المقام الأول، سواءً تجاهلوها وفروا منها أو توقفوا عندها وحاولوا مواجهتها، الذين لديهم من الإمكانات اللازمة لخوض المحيطات والأعماق ما ليس لغيرهم، وهُم في ذلك محتاجون للتكامل مع بعضهم البعض ليتغلّبوا على وحشة هذه الأعماق ومخاطرها. إنهم عندما يقومون بذلك فهم لا يقومون فقط بتسكين آلامهم، بل إنهم يعيدون بث روح الحياة في الحضارة بأكملها، من خلال بنيان فكري-أخلاقي-تطبيقي يجسد معاني الرشد بدلا من العبثية ونسبية القيم.

—–

[i] المنهج الإشراقي يؤمن بأن المصدر الأساسي للمعرفة هو الكشف الإلهي عن طريق الرؤى أو التأمل أو الإلهام الإلهي.

ياسر حسام عطا

مهندس كهرباء

مترجم حر

كاتب ومصحح لغوي

باحث في مشروعنا بالعقل نبدأ بالقاهرة