مقالات

الإفراط والتفريط

الحياة متوازنة ومتناسقة لا تحتاج إلى زيادة ولا نقصان، فالإنسان السّوي المعتدل ليس عنده إفراط ولا تفريط، فإن الإفراط هو الزيادة في الشيء لدرجة المبالغة والتعصُّب والتعنُّت والتشديد على النفس، والوصول بها إلى مرحلة قد تكره معها الحياة وتبتعد عن الاستمتاع بالأشياء الجميلة المُباحة والمُتاحة في الكون، والتفريط هو التسيُّب لدرجة عدم الانضباط في أي شيء مثل: الفرح الدائم حتى في وقت الحزن، وعدم ضبط النفس بقواعد أو شعائر أو طقوس معينة.

ويظهر هذا عندما سأل (تس كونغ) كونفوشيوس قائلًا: “أيهما أفضل (شيه) أم (شانغ)؟” فقال: “إنّ (شيه) مُفْرط و(شانغ) مُفرّط”، قال: “إذن (شيه) أفضل من(شانغ)، أليس كذلك؟” فرد عليه: ” الإفراط كالتفريط”.

خير الأمور أوسطها

وهذا هو المعنى الحقيقي للوسطية والاعتدال في القول والفعل، والرجل المثالي هو الذي يلتزم الطريق الوسط في أموره وشؤونه كلها، مما يجعله إنسانًا يسير بضوابط، فهو يتمتع بالأشياء الجميلة في الدنيا، لكن عندما يكون هناك خطأ يتوقف عنه ويُمسك عن الوقوع فيه، وكذلك لا يتشدد في أمور فيمنع نفسه من أشياء مُباحة.

إنّ التبذير والإسراف والبُخل والشُّح _على حدٍ سواء_ صفات تدل على مرض صاحبها، فخير الأمور أوسطها، فالإنسان لا يكون بخيلًا ولا مُبَذّرًا، ونضرب مثلًا للطعام فإنه ينبغي عدم الإكثار منه إلى حد التُّخمة حتى لا يُصاب الإنسان بالأمراض، وعدم عيبه وذمّه، وإذا أحبه أكله وإذا كرهه تركه، وعدم استخدام آنية الذهب والفضة، وشُرب الماء على مراحل حتى لا تصاب المعدة بالتعب والإعياء.

إنّ الإنسان السّوي يرفض كل ما من شأنه أن يؤدي إلى البذخ، وكل ما من شأنه إرهاق ميزانيته، وعدم مراعاة الطبقات الكادحة الفقيرة التي لا تجد قوت يومها ما تسد به الرمق، أو كِسوة تُغطي بها جسمها من برد الشتاء القارس القارص العصيب والعاصِف، فهدوء النفس الداخلي والشعور بالتوازن والاتزان أمر في غاية الأهمية، وهو من الخصال التي يحتاجها عالَم اليوم المتصارع داخليًا بالأفكار قبل صِراعه خارجيًا بالسلاح والعتاد.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وضبط النَفْس يحتاج إلى صبر وتدريب، ويحتاج كذلك إلى عزيمة وتحكّم، لأن النفس _غالبًا_ تأخذ صاحبها إلى طريقيْن لا ثالث لهما: إما إلى الإفراط ، وإما إلى التفريط وفي كلٍ شر، وراحة النفس تكون في الوسطية والتيسير، ولهذا يقول كونفوشيوس: “كان (تْسو جيُو مِينْغ) يستحي أن يكون له كلام لطيف وبشاشة مُتصَنّعة واحترام مُفرط وكذلك أنا أستحي من ذلك، وكان يستحي أن يُخفي الحقد عن الذي يحقد عليه ويُبدي له الصداقة، وكذلك أنا أستحي من ذلك”.

الاعتدال يبعث في النفس الطمأنينة

إنّ معنى مُطابقة كلام (تْسو جيُو مِينْغ ) لِما عند الحكيم وتصديقه له يؤكد أنه يؤمن به، وهذا من أفكاره وفلسفته وطريقته في التربية، وكذلك نفهم من هذا أنّ الإنسان الطيب النقي الشفاف الباطِن قبل الظاهر يحبه أقرانه وإن تباعَدت بلادهم، وإن اختلفت دياناتهم، وإن تنوعت أجناسهم وألوانهم، لأنهم يشتركون في معنى واحد وهو الإنسانية.

والاقتصاد والاعتدال في كل شيء هو أمر سهل مُحبّب إلى النفس قريب منها مثل: الطعام والشراب والملبس والكلام والضحك وكل مناحي الحياة، ولقد رأيتُ هذا عند الصينيين، فحياتهم بسيطة ليس عندهم تكلُّف، فالاقتصاد يبعث في النفس الطمأنينة والسكينة والهدوء، وهو المثل الأعلى للفضائل.

وقد أشار كونفوشيوس لمثل هذا عندما سأله أحد تلاميذه وهو (تس كونغ) قائلًا: “كيف تجد حضرتك مَن يحبه جميع أهل القرية؟”، قال: “لا أستحسنه”، قال: “كيف تجد حضرتك من يكرهه جميع أهل القرية؟”، قال: “لا أستحسنه، إنما الأفضل أن يحبه خيار أهل القرية ويكرهه أشرارهم”.

إنّ التوسط والاعتدال حتى في التفكير والتأمل فلا يشرد ذِهن الإنسان فيصيبه مكروه أو سوء، فقد كان (جي وِنْ تسو)، وهو من كبار الموظفين، يتفكّر في كل أمر ثلاث مرات ثم يعمله، ولما سمع الحكيم هذا الخبر عنه قال: “تكفيه مرتان”.

إنّ الرجل القويم يكون وسطًا ويجب أن يكون له تفكير مستقبلي، يشعر بالآخرين، ويحمل همّهم، ويشفق عليهم، ويبسط لهم جانب الرحمة لأن هذا التفكير الإيجابي والنافع سيعود بالخير والسلام والمحبة على الجميع.

اقرأ أيضاً:

الفضيلة ومفتاح السعادة الإنسانية

استقيموا يرحمكم الله

فلسفة الصراعات الصين نموذجا

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

د. وائل زكي الصعيدي

خبير مناهج وطرق تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها/ جامعة الاقتصاد والتجارة الدولية

محاضر في: جامعة الدراسات الأجنبية كلية العلوم الإسلامية الصينية / بكين – الصين

دكتوراه فى المناهج وطرق تدريس اللغة العربية

ماجستير في أدب الأطفال، ودبلوم خاص في المناهج وطرق التدريس، رئيس قسم الموهوبين بإدارة ميت أبو غالب التعليمية دمياط سابقاً

عضو اتحاد كتاب مصر