مقالات

الإعلام والأجورا الرقمية!

لا أحد من البشر يمتلك الحقيقة، وليس من المهم أن تمتلكها إن أردت الشُهرة أو الهيمنة، ولا أن تكون مُبدعًا أو صاحب رسالة، لكن المُهم أن تمتلك وسائل الإعلام وتعرف كيف تُحركها! المهم أن تتمكن من توجيه الإدراك العام أو الحس المشترك، وبوابتك الكبرى نحو تحقيق هذا التوجيه هي الإعلام، فما تراه العين وتسمعه الأذن بشكلٍ متكرر يألفه العقل ويُردده اللسان، حتى وإن كان في البداية موضع شك!

فلسفة الإعلام

لا شك أن ثمة دراسات متعمقة حول دور الإعلام وتأثيراته المتباينة –إيجابًا وسلبًا– على الفرد، والأسرة، والمجتمع بصفة عامة، لكني حين أتأمل ما تقوم به وسائل الدعاية والإعلام من تشكيل فج للوعي العربي، ترويجًا لأيديولوجيات ودوجماطيقيات وممارسات نوعية ومرحلية، يراودني السؤال: كيف ولماذا لا يتم تدريس مقرر يحمل اسم «فلسفة الإعلام» بأقسام الفلسفة في الجامعات العربية؟

لا سيما وأن لفن (أو علم) الإعلام (وتأثيراته على الثقافة الفردية والجمعية) جذورًا ممتدة في تاريخ الفلسفة، ربما منذ أن وضع «أرسطو» كتابه «الخطابة»، ومنذ أن صرَّح «كونفشيوس» أن الصورة تساوي ألف كلمة (وهو الرأي المعمول به في الأوساط الإعلامية منذ زمن بعيد)،

هذا بالإضافة إلى ارتباط الدعاية الإعلانية بكافة التوجهات السياسية والاقتصادية والثقافية في المجتمعات الإنسانية عمومًا، حيث تُصبح السلعة أو الفكرة مرغوبة، لا لأهميتها أو جودتها، وإنما لما تضفيه من معنى خاص يرتبط بشيء ما لدى راغبها، ناهيك عن التركيز على ديناميكية الغرائز وعمق تحولها،

ومخاطبة العقل الباطن لاجتذابه ثم السيطرة عليه بما يجعله عاجزًا عن مقاومة الإغراء (كتمثيل انسيابية السيارة بتموجات قوام المرأة لتصبح السيارة بديلا ماديًا يقتل الارتباط الروحي بالمرأة، وتطويع اللغة، بل وتشويهها، لتحقيق المآرب السياسية، وإعادة تشكيل الوعي الشرائي بالتكنولوجيا المتسارعة لخدمة رؤوس الأموال الراكدة، وتوظيف أداء الساسة للشعائر الدينية لمغازلة الوجدان الديني لدى العامة، إلخ)، ومن ثم تتقلص أبعاد الإنسان (على حد تعبير «هربرت ماركيوز») إلى بُعد واحد هو البعد المستسلم للواقع.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الإعلام والكذب

لا يفوتني في هذا الصدد أن أشير إلى كتاب «تشومسكي» A. N. Chomsky (من مواليد سنة 1928) «الاقتصاد السياسي لوسائل الإعلام» Political Economy of the Mass Media (1988)، وكتابه «هيمنة وسائل الاتصال» Media Control (1991)، حيث ذهب فيهما إلى أن الدعاية الإعلامية هي أخطر وسيلة للهيمنة كمؤثر أيديولوجي، بغض النظر عن الأسلوب الذي تصل به إلى مقاصدها.

لا تفوتني أيضًا الإشارة إلى أن كثرة من الفلاسفة يطلقون على «فن الإعلام» اسم «فن الكذب»، لما له من تأثيرات تعيد تشكيل الوعي على نحو كاذب يتيح السيطرة المطلقة على المتشكل، لا سيما في ظل التطور المتسارع للتكنولوجيا الرقمية التي تجاوزت بالإعلام مفهومه التقليدي إلى ظاهرة لم يسبق لها مثيل: ظاهرة «الإعلام الطليق والفوضوي» في الفضاء الإلكتروني اللا محدود.

هذه الظاهرة أدت بلا شك إلى كثرة من التحديات، بدايةً من انتهاك قواعد الإعلام المهني وأخلاقياته وقوانينه، ومرورًا بإعادة تشكيل معرفتنا وإدراكاتنا وذاكرتنا وحتى عواطفنا وفقًا لرؤى وأيديولوجيات وبرامج سياسية واقتصادية نوعية متضاربة،

ووصولًا إلى فوضى البيئة الافتراضية المنفصلة عن الواقع الفعلي، وتأثيراتها المدمرة للوعي البشري في مرحلة فاصلة من مراحل تطوره، حيث يتم خداع كل منا بشكل فريد، وبما يُضيف طبقة سميكة من المصالح بيننا وبين فهمنا الجمعي لما هو موجود بالفعل.

وعندما ننشر ونعيد النشر، ونغرد ونعيد التغريد، نخدع بعضنا البعض، وننشر مغالطاتنا الخاصة، وتتحول «الأجورا» Agora (منصة الإعلام وساحة التجمع للفلاسفة والمبدعين في اليونان القديمة) إلى «أجورا رقمية» تموج بالصالح والطالح!

لم يعرف «سقراط» أو «أفلاطون» أو غيرهم من فلاسفة حقبة ما قبل الإنترنت ما نعرفه اليوم من وسائل للدعاية والإعلام، ولم تتطرق أذهانهم إلى الهواتف الذكية ومنصات التواصل الاجتماعي والبرمجيات الموجهة، ولكن كان لديهم بالتأكيد ما يمكن قوله حول تأثير هذه التقنيات وما قد تؤدي إليه من تدمير لملكة الوعي، فالعقل واحد وإن تعددت مناهج وطرائق استخدامه للأشياء، ومأساة البشر وتحديات الواقع واحدة، وإن تعددت أشكالها واختلف زخمها!

أسطورة مصرية قديمة

في محاورة «فايدروس» Phaedrus، أعاد «أفلاطون» تخيل أسطورة مصرية قديمة، حيث ينتقد الملك الإله «تاموز» Thamus اختراع الإله «تحوت» Theuth للكتابة. عرض «تحوت» فنونه على الملك وقال له «لا بد أن ننقلها إلى المصريين»، لكن الملك سأله عن منفعة كل منها، وكان يلومه أحيانًا ويمدحه أحيانًا أخرى بحسب ما يتراءى له.

وعندما وصل الإله إلى حروف الأبجدية قال للملك: «هاك معرفة ستجعل المصريين أحكم وأكثر قدرة على التذكر، لقد اكتشفت سر الحكمة والذاكرة». حينئذٍ أجاب الملك: «يا تحوت، يا سيد الفنون الذي لا مثيل له، هناك رجل قد أوتي القدرة على اختراع الفن، ورجل غيره هو الذي يحكم على ما جلبه هذا الفن من ضرر أو نفع لمن يستخدمونه.

والآن بوصفك مخترع الكتابة، أراك قد نسبت لها عكس نتائجها الصحيحة بدافع تحيزك لها. هذا الاختراع سينتهي بمن يستخدمونه إلى ضعف الذاكرة لأنهم سيتوقفون عن تمرين ذاكرتهم حين يعتمدون على المكتوب، وبفضل ما يأتيهم من انطباعات خارجية غريبة عن أنفسهم، وليس بما بباطن أنفسهم، فأنت لم تجد علاجًا للذاكرة ولكن للتداعي!

أما بخصوص الحكمة فإن ما قدمته لتلاميذك ليس هو الحقيقة بل مظهرها، فهم حين يتجرعون بفضلك المعلومات بغير استيعاب، يبدون قادرين على الحكم في كل شيء، بينما هم في معظم الأحيان جهلة لا يمكن تحملهم، ومن ثم يكونون حكماء، بل أشباه حكماء».

هذا النص يمكن قراءته كنقد لا لبس فيه لعصر تكنولوجيا المعلومات والإعلام الرقمي: محركات البحث، إمكانية الوصول الفوري إلى الأخبار والبيانات وتبادلها، وقبل ذلك تزييفها وتقديمها جاهزة على طبق من فضة للعقول الخاملة المُغيبة.

وهو أيضًا نقدٌ للتأكيد الذاتي الصارخ لخطاب وسائل التواصل الاجتماعي، فما هذه التقنيات سوى شبكات مُعقدة من المعرفة الكاذبة في أغلب الأحيان، وطبقات متراكمة وسميكة من الارتباك والفوضى تؤكد عدم قابلية الحقيقة للوصف!

الموضوع أكبر من ألخص أهميته في كلمات، وإذا كانت معظم المناقشات تركز على جزءٍ من جانبه الأخلاقي يمس القيم المجتمعية والدينية والإنسانية عمومًا، فإن جوانبه الاقتصادية والسياسية والثقافية قد تكون أشد خطورة.

اقرأ أيضاً:

هل الإعلام وسيلة لتشكيل الرأي العام أم وسيلة مؤدلجة لصناعة القيم؟

الإعلام حصان طروادة الحديث

كيف يُوجه الإعلام العقل الجمعي؟

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية