الأوهام الأربعة – هل حقاً كان سبب الخرافة والجهل في عصر النهضة أربعة أوهام ؟
تعد الفترة ما بين القرن ال15 وال17 الميلادي نقطة محورية في تاريخ أوروبا الفكري وتاريخ العلم الحديث بشكل عام، فقد سميت هذه الفترة بعصر النهضة أو Renaissance وهي كلمة فرنسية تعني “الولادة من جديد”، في بداية هذه الفترة ظهر تيار فكرى جديد ضد التيار السائد والمسيطر منذ أكثر من 10 قرون وهو التيار المسيحي أو لنكون أكثر دقة “رجال الكنيسة” ففي عهدهم شهدت أوروبا جمودًا وانحطاطًا فكريًا وعلميًا واستغلالًا ماديًا كبيرًا باسم الدين استوجب صحوة وثورة من ذوى الفكر والعلم حتى لا يستمر هذا الجمود المنافي لحقيقة الإنسان الساعية للتكامل والتطور.
في تلك الفترة لم يكن مسموح لأحد أن يحاول الوصول إلى أي معرفة جديدة أو يقوم بتعديل ما توصل إليه علماء القرون الوسطى كأرسطو وغيره، فرجال الدين سيطروا على كافة مناحي الحياة وتبنوا أفكار العلماء السابقة وأصبحت حقائق “دينية” أي أنها أصبحت كلمات الله غير القابلة للتفكير أو التعديل، وبما أن الذي يضع القوانين لعامة الناس لا يضع كل شيء في موضعه فالنتيجة أن معظم أفكار وتصورات الناس عن الحياة غير صحيحة مما أدى لانتشار الخزعبلات والخرافات…
قام أحد رواد التيار المعارض وهو “فرانسيس بيكون” بإنشاء منهج جديد لتكوين القواعد والأفكار والوصول للحقائق, يخلوا من التبعية العمياء لما هو سائد وينكر أي معرفة جاءت عن طريق العمليات العقلية أو النصوص الدينية، قائم على التجربة والمشاهدة والحواس فلا يمكن مثلا تصديق أن الأرض مسطحة أو أنها المركز الذي يدور حوله الشمس كما تقول الكنيسة فقد ثبت بالتجربة والمشاهدة أنها ليست مسطحة وأن الأرض هي التي تدور حول الشمس…
رصد (بيكون) في كتابه “الأورجانون الجديد” الأسباب التي جعلت الوضع يصل إلى هذا الانحطاط والجمود الفكري والعلمي واتباع الخرافات في تلك الفترة وسماها ب “الأوهام الأربعة” سنتناولها سريعا:
” أوهام الجنس البشرى “
يرى بيكون أن الإنسان -أي إنسان- عندما يصل إلى معرفة ما ويألفها، يتمسك بها ويدافع عنها بكل مشاعره دون أي دليل يثبت صحة معتقده أو ما يدافع عنه ويشعر أنه محتكر للحقيقة…
” أوهام الكهف “
وهي أن فكر الإنسان ورؤيته للحياة تنشأ نتيجة الأسرة والبيئة والمجتمع الذي يعيش فيه وهذا يجعله يعيش في كهف منعزل عما يحدث في البيئات الأخرى وحتى إذا أتيحت له فرصة الاطلاع والتعرف على ثقافات مختلفة فإنه سيتمسك بما اعتاد عليه بسبب وهم المعرفة “أوهام الجنس البشرى”
” أوهام السوق “
دور اللغة الأساسي هو نقل معرفة وشعور الإنسان إلى من حوله ولكن عندما تكون الألفاظ المستخدمة غير واضحة يحدث لبس في فهم ما يقصده المتكلم، غير أن لكل فئة اجتماعية وعلمية لغتها الخاصة التي تستخدمها لتصف ما تعرفه عن العالم، لذلك فإن هناك صعوبة شديدة في وصف ما يفهمه الفيلسوف إلى عالم الكمياء أو فيما يصفه المعلم للتاجر وهكذا تصبح المعرفة متداخلة وتضيع فيما يقال وما يقصد مما قيل وما يفهم من ذلك…
” أوهام المسرح “
آخر ما يوهم الإنسان أنه يعرف الحقيقة أن يرى ويسمع ما يحدث من حوله دون أن يعمل عقله ويرجح الصحيح منه والخاطئ فتتشكل لديه دون وعي منه رؤية للواقع تتوافق مع من يريد أن يجعله يرى الواقع بتلك الطريقة، بغض النظر عن كون ما يتم تلقينه به حقيقيًا أوغير ذلك، كالمتفرجين على مسرحية يحزنون بحزن بطلها ويفرحون بنصره دون أي تفكير في مدى استحقاق البطل للمدح أو الذم؟! فهم منساقون بمشاعرهم وراء الممثلين “رجال الدين في تلك الفترة” الذين يشكلون وعيهم ورؤيتهم للحياة!
وبالرغم من أن كثيرا مما وصل إليه بيكون نتيجة لتحليل واقعه صحيحا، خصوصا فيما يتعلق بالأفكار العلمية إلا أننا بديهيا يمكننا أن نتساءل:
“كيف استطاع فرانسيس بيكون تحليل تلك الأوهام دون أن يقع فيها؟ هل التيار المضاد جاء من المفكرين والعلماء فقط أم أن هناك رجال دين أيضا ساهموا في تلك الحركة المضادة للنظام السائد؟ ولكي نكون أكثر وضوحا هل الصراع هنا بين العلم والدين، وبفوز العلم لم يعد هناك حاجة للدين؟”
الأوهام لا تنطبق على الكل
إذا كان “بيكون” توصل لهذه الأسباب نتيجة لنشأته في بيئة مختلفة فهذا يعنى أن هذه البيئة هي التي جعلته يفكر بهذه الطريقة وربما يكون قد وقع في “أوهام الكهف” وتمسك بها نتيجة لـ “أوهام العقل البشرى”
ولكن الحقيقة أن الأوهام التي حددها لا تنطبق على كل البشر وأن الإنسان لديه ما يجعله يرى الحقيقة ويحدد مكمن الخطأ في التفكير مهما كانت تنشئته غير سليمة أو اللغة غير واضحة وهي الفطرة والبديهيات التي تبدأ في العمل فقط عندما يتجرد الإنسان من عادات وتقاليد مجتمعه وموروثاته ومشاعره وشهواته،
فقد استطاع بيكون بالتفكير المنطقي وبديهياته العقلية أن يدرك أن طريقة التفكير السائدة هي نتيجة لسيطرة فئة على الفكر ونشره وهي بديهة “أن لكل سبب مسبب” وهذه البديهية هي التي جعلته يبحث عن السبب في ما وصل إليه مجتمعه وهي الأساس الذى يجعل أي عالم يبحث عن سبب حدوث الظواهر وكيفية الاستفادة منها… أما مشكلة الالتباس اللغوي الذى ينشأ عن اختلاف معنى المفاهيم قد قدم له أرسطو حلا جزريًا وهو سؤال “ماذا تعنى بـ… ؟ “قبل إصدار أي حكم على ما يتم الحديث عنه ولكي تبقى الرؤية واضحة وتقوم اللغة بعملها المنشود…
ومن أكثر الأمثلة وضوحا على أن الإنسان بالفطرة والمنطق والتجرد عن الأهواء والموروثات يستطيع الوصول لما هو حقيقي، هي الثورة الدينية الإصلاحية التي قام بها “مارتن لوثر” الذي نشأ في كنف الكنيسة ولكنه ما لبث أن ثار عليها عندما رأى استغلال بعض رجال الدين “للدين” في سبيل جني الأموال، وذلك عن طريق “صكوك الغفران” التي كانت تباع مقابل التكفير عن خطايا من يشتريها ويعترف بذنوبه؟!
هل هو صراع بين الدين والعلم؟
وهذا يعنى أن الصراع لم يكن بين الدين والعلم بل بين التيار الاستبدادي الديني والتيار الإصلاحي الذي تضمن علماء كجاليليو وكبرينكس ومثقفين كفرانسيس بيكون وليوناردو دافنشي وحتى رجال دين كمارتن لوثر الذي أنشأ المذهب البروتستنتية وغيرهم…
وعليه فإن الإدعاء الذي يقول بأن إنشاء حضارة متقدمة ومتطورة يرتبط بنبذ الدين وفصله عن الحياة، لا يمكن الاعتماد عليه؛ فالدين الحقيقي داعم للعلم ويحث على التطور والتقدم الذي يتناسب مع قوانين الكون وسننه, ولكن علم بدون أخلاق وقيم, يعني حكم القوة وسيطرة ذوي النفوذ,
وإذا قمنا بعمل استقراء تاريخي سنجد أن كل من عاش في ثنائية (إما الروح أو المادة) أو (إما العلم أوالدين) لم يصمد طويلا وسرعان ما انهارت حضارته وقد أوضح على شريعتي في كتابه “مسؤولية المثقف” أهمية العلم ودور العلماء قائلا “هناك مسؤولية على عاتق العلماء محددة تماما وهي منح الحياة أكبر قدر ممكن من الإمكانيات, ومعرفة الوضع الراهن وكشف قوى الطبيعة والإنسان واستغلالهما”.
ولكن كما أن الاستخدام الأمثل لإمكانيات السيارة أو أي منتج والمحافظة عليها لأطول فترة ممكنه يأتي في شكل “كتالوج” للمستخدم من قبل صانع السيارة، فالإنسان لا يستطيع إدارة واستخدام تلك العلوم والإمكانات التي يتيحها العلم له إلا من خلال “كتالوج” يرسله الخالق له وهو الدين.
اقرأ أيضاً:
مناقشة فلسفية لفيلم الدكتور سترينج
كيف يحيا الإنسان حياة إنسانية حقيقية ؟
لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.
ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.