العنف المقدّس .. الجزء السابع
عندما يكون العمل الشّرعيّ سبيلًا للعنف "شكل علاقة العامل بالله وأثرها على سلوكه لطفًا وعنفًا"
إذا كنا عرفنا سابقًا أن علاقة العامل بالله تتردد بين الخوف والشهود، فإن تجلية أثر شكل هذه العلاقة على سلوك العامل لطفًا وعنفًا، يتحقق بمعرفة أن العامل بحكم طبيعته البشرية الضعيفة، لا يقوى على الوفاء بكامل حقي العمل الشرعي –المتمثلين في إقامته ظاهرًا والتخلق به روحًا– دفعةً واحدة دون ممارسة طويلة للعمل ومجاهدة مستمرة للنفس، وذلك للوفاء بحقي العمل، خاصةً والعمل الشرعي يتسم بالعمق كما عرفنا سابقًا، الأمر الذي يعني أنه لا محيص للعامل، في ضوء محدودية قواه من جهة وعمق العمل الشرعي وضخامته من جهة أخرى، عن أن تستغرقه في علاقته بالله إحدى الجهات التي تبدأ بـ”الخوف” وما يسم به العلاقة من “أمرية” وتنتهي بـ”الشهود” وما يسم به العلاقة من “محبوبية”.
إذا ما استغرقت العامل جهة الخوف فإن ذلك يعني أن الأولوية ستكون لإقامة الأمر ظاهرًا على التخلق به روحًا وصولًا إلى الآمر، بعبارة مختصرة: ستكون الأولوية لـ”الأمر” على “الآمر”، ومعنى أولوية الأمر على الآمر، أن قوى العامل مستغرقة في تنفيذ ظاهر الأمر مقطوعة الصلة عن روحه تدبرًا في مقاصده وتخلقًا بقيمه.
من ثم ينعكس هذا الاستغراق في ظاهر الأمر على العامل على أكثر من صعيد:
أولًا: على صعيد عقل العامل، فتجد أنه يتسم بالضيق، فيأتي موقفه من الأمر لا يعرف خيارًا، وسوف نرى عند ذكر المثال من السنة النبوية مصداق ذلك.
ثانيًا: على صعيد نظره للآخر الذي يوقع عليه هذا الأمر أحيانًا، فينظر إلى الآخر نظرًا يغيّبه، بمعنى أنه يتجاهل ظروف من يوقع عليه الأمر وسياقه، وهو ما يسم سلوك هذا العامل بـالعنف، الذي يأخذ درجات تبدأ بـالتشدّد الذي يتجلى في الفظاظة والغلظة، التي يكون عليها العامل المستغرق في ظاهر الأمر في أثناء ممارسته الدينية، تلك الغلظة التي تنبع من استغراقه في الأمرية وتفضي به إلى تغييب الآخر إنسانيًا أي عدم الاكتراث به وبخلفياته، ويتطور إلى “التطرف” في الأقوال الذي يقوم على تغييب النصوص في تكاملها، عن طريق اقتطاعها من سياقها وحملها على ما يخدم وجهته، وصولًا إلى “الإرهاب” حيث الفتك بالخصوم على مرأى ومسمع من الناس دون أي اعتبار لروابط إنسانية.
الخيط الجامع لكل هذه الممارسات هو “التغييب” للآخر، سواء أكان نصًا أم كان واقعًا أم كان إنسانًا وعدم الاكتراث به، وذلك لاستغراقه في ظاهر الأمر المقطوع الصلة عن روحه المتجسدة في معانيه وقيمه، كأن الله –في العمق– يعاقب هذا المستغرق في ظاهر الأمر، على قطعه الصلة بين ظاهر الأمر وروحه، بأن حرم الله بصره التوفيق في مقاربة الأمر سواء على صعيد معاملة الآخر أو على صعيد قراءة النص والواقع.
في المقابل إذا ما تعمقت علاقة العامل بالله من خلال تخلّقه بالعمل سلوكًا وتشرّبت روحه مقاصده وقيمه فهمًا وإدراكًا، فإن “جهة الشهود” تصير هي المسيطرة على العامل في علاقته بالله، وهو ما ينعكس على سلوكه رفقًا في امتثال الأمر والنهي، وإحكامًا وعمقًا في النظر إلى الآخر الذي يمثّل في بعض الأحيان موضع تنفيذ الأمر.
تراه ينظر في حال الآخر الذي يمثل موضع تنفيذ الأمر أحيانًا معتبرًا ظروفه وسياقه اعتباره لضرورة تنفيذ الأمر، وسرّ ذلك أنه يشاهد الله محبوبًا فيما يفعل، فيأتي تدبيره للأمر عميقًا موسومًا بحسن التنفيذ له وحسن التقدير لعواقبه، وهو ما يسمو بسلوك هذا العامل إلى “لطف الدين”، ومن ثم يكون بعيدًا عن الوقوع في “إيذاء العنف”، إذ إن دوام تخلّقه بمعاني الأسماء والصفات المبثوثة في الأوامر والأفعال الشرعية، يقف حائلًا بينه وبين هذا العنف.
إن كلامي الأخير هنا لا يؤسس لفوضى في التعامل مع الأوامر والنواهي الإلهية ليفعل من شاء ما شاء، لا سمح الله، بقدر ما هو دعوة للتبّصر في الأمر والنهي والتخلق بقيمهما والتحقق بمعانيهما، عند من ظنّ أنه التزم الأمر، حتى لا يقع هذا الملتزم في عكس ما أراد هو وأراد شارع الأمر والنهي سبحانه.
إذ إن التبّصر في الأمر والنهي الإلهي، بمعنى تعمق النظر في النص منبع الأمر وتعمق النظر في الواقع موضع تنفيذ الأمر، وما يستتبعه ذلك التعمّق من تخلّق، أقول: إن هذا التبصّر أقوى الطرق في نفي أخطر أنواع العنف وأكثرها فتكًا بالإنسان، ذلك العنف الذي يقع تحت غطاء “القداسة الإلهية”، وسر خطورته أنه لا يمكن لصاحبه أن يعود عنه متى ما أشرب قلبه مقدماته التي أسعى إلى تفصيلها هنا، ولذلك سمّيته “عنفًا مقدّسًا”.
بهذا نكون تكلمنا عن شكل علاقة العامل بالله وأثرها على سلوكه لطفًا وعنفًا، ويبقى لنا أن نتناول شكل علاقة العامل بالعمل وأثرها على سلوكه عنفًا ولطفًا، لنكون أحطنا بالأسباب العميقة لاختلاف وقع العمل في نفوس الطائعين وما يستتبعه ذلك الاختلاف لوقعه من لطف وعنف.
علاقة العامل بالعمل بين القانونيّة والأخلاقيّة
إن علاقة العامل بالعمل الشرعي تختلف باختلاف المرتبة التي يتنزل فيها العامل من مراتب العمل الشرعي، التي تبدأ بـالدخول فيه وتنتهي بصاحبها إلى الوصول إلى الله، وهذا الاختلاف في علاقة العامل بالعمل الشرعي، يتجلى في الوجه المعتبر عند العامل من العمل الشرعي، إذ إن للعمل الشرعي وجهين؛ “قانوني” يتمثل في الامتثال للأمر بالدخول في الفعل، و”أخلاقي” يتمثل في التخلق بالعمل من خلال وعي مقاصده وما وراءها من قيم ومعانٍ موصولة بأسماء الله وصفاته، ومراعاة كل هذا في ممارسة العمل الشرعي.
تختلف صفة العمل بين القانونية والأخلاقية في وعي العامل باختلاف المرتبة أو الطور الذي يمرّ به العامل، ومن ثم فالعمل لا يحضر في وجدان العامل الواقع في طور “الامتثال للأمر بالدخول في الفعل” حضوره في وجدان العامل الواقع في طور “التخلّق بالعمل”.
حضور العمل في وعي الداخل في العمل، هو حضور قانوني امتثالي أكثر منه أخلاقيًا، بمعنى أن العامل في طور امتثال الأمر بالدخول في الفعل يكون تفكيره في الأوامر والنواهي من خلال ما فيها من مضار ومنافع ظاهرة فقط، مقطوع الصلة عما وراءها من قيم أخلاقية ومقاصد شرعية، وهو ما ينعكس بدوره على طريقته في الامتثال للأمر والانتهاء عن النهي في “أحادية نظره”.
إذ يتركز نظر العامل في قانونية العمل الظاهرة، الأمر الذي يجعله لا يجد إزاء العمل سوى خيار واحد هو الامتثال القانوني بالفعل غير مكترثٍ بعواقبه التي قد تتعارض مع مقاصده الأصلية التي تقف وراءه، وهو ما يجرّ هذا العامل إلى تناقض العمل في ممارسته له وفي عواقب فعله له، مع قيمه ومعانيه الثاوية خلفه والمستمدة من أسماء الله وصفاته، ومن ثم تكون النتيجة على خلاف ما أراد العامل وخلاف ما أراد الشرع عندما شرع العمل أصلًا، فتجد أعمالًا يدّعي أصحابها أنها شرعٌ ورحمةٌ لا تمارس على نحو فيه رحمة أو تثمر رحمةً أبدًا، وكأن الله –في العمق– يعاقب هذا العامل على انحباسه في قانونية العمل دون وعي بمقاصده وأخلاقياته، بأن جعل مآلات عمل هذا المنحبس في الوجه القانوني، لا تحقق له مقصوده الذي نهض للعمل من أجله، فأفسد الله عليه مقصد عمله كما أهمل هو مقصد العمل الشرعي جزاءً وفاقًا.
أما حضور العمل في وعي “المتخلّق بالعمل” فهو حضور أخلاقي أكثر منه قانونيًا، بمعنى أن تفكير العامل في الأمر والنهي يكون مزدوجًا يجمع بين جهتين:
الأولى: “أخلاقية” وهي ما يستند إليه الأمر والنهي من مقاصد شرعية، وما تستند إليه هذه المقاصد من قيم أخلاقية موصولة بأسماء الله وصفاته.
الثانية: “قانونية” وهي ما في امتثال الأمر والانتهاء عن النهي من منافع ظاهرة.
هذه المقاربة المزدوجة من العامل في نظره للعمل تنعكس على طريقته في مقاربة الأمر والنهي، فتجعل تفكيره في مآلات عمله وطريقة ممارسته له صنوًا وكفئًا لتفكيره في ضرورة إيقاعه والإتيان به، ومن ثم تكون مآلات القيام بالعمل الشرعي وأسلوب ممارسته، غير متدافعةٍ مع مقاصده الشرعية وقيمه الأخلاقية الثاوية خلفه.
بعبارة أخرى: إن العامل هنا لا يحرص فقط على الامتثال، لكنه قبل ذلك يحرص على حسن الإنزال أو جمال الإيقاع للعمل الشرعي، بما يقتضيه ذلك الحسن من الاستيعاب التام لكل أطراف الواقعة محل العمل الشرعي، ومن التدبر العميق لعواقب الحكم على تلك الواقعة المخصوصة، ومن ثم تكون نتائج العمل الشرعي أو ثماره هنا غنية ومبشّرة ومتناغمة مع بذوره وأساسه المتمثل في قيم الأسماء والصفات الإلهية ومعانيها.
في المرة القادمة سنتوقف وقفةً طويلة مع مثال من السنة النبوية يوضّح هذين الحضورين للعمل في وعي العامل، وما لكلٍ منهما من أثرٍ على سلوكه لطفًا وعنفًا، ليتّضح المقال بالمثال.
مقالات ذات صلة:
الجزء الأول من المقال، الجزء الثاني من المقال
الجزء الثالث من المقال، الجزء الرابع من المقال
الجزء الخامس من المقال، الجزء السادس من المقال
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا