مقالات

الأمثال الشعبية: فلسفة الجماهير

الفلسفة بمعناها العام ليست فقط تلك التي يشيدها الفيلسوف عن أصل الوجود وماهية الحياة، فتلك فلسفة بالمعنى الخاص، أما الفلسفة بمعناها العام، فيشترك فيها كل إنسان لديه ملكة الفكر، يمارسها على نحو ما العالِم والمثقف والفنان والمواطن العادي ورجل الشارع البسيط.

ولكل فصيل من المجتمع سمة خاصة وطريقة في التعبير عن فلسفته وحكمته وتجاربه في الحياة، و”الأمثال الشعبية” نوع من الحكمة الشفاهية، تحمل فلسفة المجتمع وحكمته، بيد أن المثل الشعبي يتميز بأنه متداول بين معظم فصائل المجتمع، يجريه الكل على لسانه، وليس خاصًا بفئة دون أخرى كشأن الحكمة المكتوبة، ولأن المثل حكمة شفاهية، فإنه لذلك أكثر اتساعًا وأوسع انتشارًا وأسهل تداولًا.

الأمثال الشعبية ديوان الثقافة الشعبية

بيد أن “المثل الشعبي” حكمة ظريفة وفلسفة بسيطة، تعبر عن تجربة خاصة بصورة موجزة منزوعة من مفردات البيئة وأحداثها. فإن كنا نقول أن “الشعر ديوان العرب”، فإن الأمثال الشعبية ديوان الثقافة الشعبية، يبث المجتمع عبرها قيَمَه وأحكامه. فالأمثال الشعبية وعاء ممتلئ بالقيم الدينية والاجتماعية والأخلاقية والجمالية، وهي مرآة صادقة للواقع، تعكس صورة حية لذهنيته ونمط ثقافته.

فمن القيم الدينية التي تحملها الأمثال الشعبية ، قولهم “الرب واحد والعمر واحد”، وقولهم “ربك رب العطا.. يدّي البرد على قد الغطا”، و”الخيرة فيما اختارها الله”. وهي قيم تتسم بالاتكالية والرضاء بالقضاء كقولهم “المكتوب على الجبين لازم تشوفه العين”، و”اجري يا ابن آدم جري الوحوش، غير رزقك ما تحوش”.

ومن القيم الاجتماعية، وهي تعتبر أكثر القيم حضورا في المثل الشعبي،  قولهم “اتعلم الأدب من قليل الأدب”، و”الأدب فضّلوه على العلم”، و”امشي عدل يحتارعدوّك فيك”، و”اللي ما فيه خير.. تركه خير”، و”سيرة بني آدم أطول من عمره”، و”لا تعاتب العايب ولا ترقّع الدايب”، و”البنت ضرة أمها”، و”ابن الوز عوّام”، و”زي الوز.. حنيّة من غير بز”. ومن القيم الاقتصادية أيضا قولهم “الحريص محروم”، و”الغالي رخيص”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

من سمات المثل الشعبي

ومن أهم سمات المثل الشعبي السخرية والتهكم في كثير من عباراته، وذلك لأن المثل الشعبي نوع من “أدب العامة”، القوي العبارة، الغني بالتشبيهات والكنايات والاستعارات المنتزعة من ثقافة الجماهير، له إيقاع صوتي خاطف، ووقع على الأذن خلاب. ويتجلى ذلك بوضوح في تناوله للقيم الجمالية كقولهم “إيش تعمل الماشطة في الوشّ العِكر”، و”إن كان عيبه فمه.. شنبه يلمه”، و”خذ الحلو واقعد قباله، وإن جعت شاهد جماله”. وهي أمثال تشير بشكل كبير نحو نسبية قيم الجمال كقولهم “بصلة المُحب خروف”، و”قرد موافق ولا غزال شارد”، و”القرد في عين أمه غزال”.

وبرغم كل هذا، فإن الأمثال الشعبية تتسم أيضا بالتناقض، كقولهم “آخد ولد عمي وأتغطى بكمي، وآخد ولد خالي وأتغطى بشالي”، فهو يناقض قولهم “القرايب عقارب”. وكقولهم “لأجل الورد ينسقي العلّيق”، فهو يناقض قولهم  “يغور اللبن من وش القرد”، وقولهم “يا بخت من وفّق راسين في الحلال” فهو يناقض “امشي في جنازة ولا تمشيش في جوازة”.

ويمكن تفسير هذا التناقض باختلاف الأحداث والوقائع التي يمكن استحضار واستصحاب المثل لأجلها، كقولهم “اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب” وقولهم “القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود”، فالأول في حالة الإمساك مع اليسر، والثاني في حالة الإسراف مع العسر.

المثل الشعبي وسيلة لتنفيس الجماهير

كما أن المثل الشعبي كثيرا ما يكون وسيلة لتنفيس الجماهير بطريقة “التورية”، كقولهم “اللي له ظهر ما ينضربش على بطنه”، وقولهم “مسكوا القط مفتاح الكرار”.

وتعبيرهم عن فلسفة الاستبداد كقولهم “اضرب المربوط يخاف السايب”، وأحيانا تظهر قيم التملق والمداهنة كقولهم “اطعم الفم تستحي العين”، و”إن كان لك عند الكلب حاجة قوله يا سيدي”، وأحيانا الطاعة العمياء وعدم الاعتراض كقولهم “اربط الحمار مكان ما يحب صاحبه”.

فالأمثال الشعبية كما يقول المثل الروسي “عملة الشعوب”، وهي عصارة أفكاره، وحصيلة تجاربه، لا تعدم الطلاوة والرشاقة اللفظية، مع عمق في الغرض وبلاغة في الصورة. كل ذلك أكسبها فلسفة خاصة، تعكس صفات المجتمعات ونفسياتها ومعتقداتها وفلسفة معاملاتها، تقبع في عبارات قصيرة الألفاظ غزيرة المعاني، ترصد جانبا مهما من أصول المجتمع في تفكيره وقواعد معاملاته.

اقرأ أيضاً:

عاهات وتقاليد

الأمثال الشعبية المشهورة في العامية

قوة الثقافة العربية

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

هاني عبد الفتاح

كاتب وباحث دكتوراه بكلية الآداب قسم الفلسفة جامعة الفيوم