واهم هو من يظن أن الثورات قد يكون دورها مقصورا في هدم نظام سياسي أو إنهاء فترة حكم حاكم بعينه، فالثورات الناجحة بين قوسين هي الثورات التي تقوم لإنهاء حكم أفكار معينة أو أطروحات فكرية معينة والإتيان بأخرى، فتاريخ الثورات يخبرنا ذلك بمجرد تصفح الصفحات الأولى من كتابه الطويل، ولما كان العالم العربي يشهد ما عرف بالربيع العربي في انتفاضة من الشعوب المسلوب حقها، حقها المادي في حياه كريمة أفضل وحقها المعنوي المتمثل في طرح آرائها دون قيد أو خوف، فالدول الشمولية أحادية الاتجاه ترفض تماما أي محاولة للفكر خارج صندوق أفكارها الضيق الأفق ولا تسمح لنور الشمس أن يتسلل عتمة هذا الصندوق العتيق، فكان العالم العربي في حالة معرفية وثقافية يرثى لها، ويتحسر المتأمل في حال العرب كيف أضحوا بهذا الجهل بعد أن قدموا للعالم أئمة الطب، وعلماء الفلك وعلم الكيمياء والفيزياء، كما قدموا أعاظم رجال الفلسفة في التاريخ.
إن هذه الحالة العربية الجديدة من نوعها على العرب وطبيعتهم الذين اعتادوا على النمطية والخضوع لقوة القانون هي بالفعل غريبة على عرب هذه الأيام، فظروف الثورات أجبرت الكل على إخراج ما في جعبته من أفكار وأطروحات، لينكشف الغطاء عن تراكم سنين وسنين من الجهل والاستبداد والفساد والفقر، الفقر الفكري قبل أن يكون الفقر الجسدي، هذا الفقر جعل الإنسان العربي كالعاري في مواجهة رياح الشتاء الباردة لا حول له ولا قوة، فتضاربت الأفكار واختلفت الأطروحات وتباينت الآراء وفقدت القيم مصداقيتها، وفقدت أقدس الأفكار قدسيتها، فطرحت كل الأفكار للنقاش وبات يقين الأمس محل شك اليوم، ونقول أنه لا عجب في ذلك فالحالة الاجتماعية للمجتمعات العربية تتغير وبسرعة شديدة فكان من الطبيعي وضع كل شيء على مائدة النقاش والحوار وهي ظاهرة صحية جدا، لأنه لا توجد فكرة أعلى من أن توضع على مائدة الحوار وتكون محلا للدراسة والنقد، الأحرار هكذا يفكرون ولكن في عالم لا يزال كطفل يحبو بين عالم الأفكار الفسيح كان من الطبيعي أن يكون النقد والدفاع، الرأي والرأي الآخر بهما وحولهما كثير من اللغط في الاستدلال العلمي وربما هذا الموضوع يحتاج إلى بحث بحياله ولكن لا بأس فالمتأمل للحالة العربية يرى أن لغة العقل ليست مسيطرة في أغلب الأطروحات المقدمة أمامنا اليوم.
كان أرسطو المعلم الأول وشيخ الفلاسفة كما يقال عنه يقول إن الحكمة هي التوسط بين الإفراط والتفريط، فلا يجب للعاقل المتأمل أن يكون مندفعا ولا أن يكون متخاذلا نمطيا فيما يتعلق بالأفكار، فإن العقل السوي هو العقل المنصف الذي يستطيع أن يتعامل مع الأفكار بحيادية وموضوعية تامة مهما كانت الظروف فيميز فيها الخبيث من الطيب، فقد كان أرسطو أيضا يقول “إن علامة العقل الراجح قدرته على تفنيد الأفكار دون اعتناقها” لذلك كان الإنصاف والموضوعية والوسطية شرط أساسي في من أخذ على عاتقه مسئولية مراجعة الأفكار وعرضها على ميزان العقل، ولعلنا هنا نحتاج أن نبين الفرق بين العقل البرهاني والعقل الاستحسانى، فالأول يخضع للدليل والبرهان والحجة العقلية وموضوعها المنطق، والثاني يخضع لرغبة الناس والنفس وموضوعه الهوى، وشتان بين هذا وذاك فشتان بين من يقدم لنا دليلا موضوعيا منطقيا وبين من يقدم لنا ميلا هوائيا لا يسمن ولا يغني من جوع، فالإنسان الراغب بالبحث عن الحقيقة عليه أن يكون متجردا صادق النية طاهر القلب قبل أن يكون مجتهدا عقليا، فبدون نفس سليمة مقبلة على الحقيقة بشغف وتريد إنصاف الحق بصدق يكون البحث غير مفيد في الأخير، فالرغبة منه في النهاية تتحول إلى رغبة في انتصار النفس لا الحق ويتحول البحث في الأخير إلى سلعة تفقد قيمتها مع الزمن.
وهذا قول بسيط عما ينبغي أن تكون عليه حال النفس المقبلة على البحث وطلب العلم، فما بال المجتمع في هذه المعادلة الصعبة؟!.. كما أسلفنا أن واحدة من أكبر مشاكل المجتمعات العربية كانت أحادية النظر والرؤية، ولأن الهدف من وجود المجتمع البشري هو الكمال، كمال النوع الإنساني برمته وكان الكمال إما مادي وإما معنوي وكان المعنوي أفضل وأشرف من حيث أن الإنسان مميز عن جميع المخلوقات بالعقل لذلك كانت كمالاته أرقى وأشرف من الكمالات الحيوانية المادية فالإنسان يحتاج المادة بالتأكيد لكن المعنوي فيه هو الأصل، لذلك وجب على المجتمع أن يأمن للإنسان الكمال المادي والكمال المعنوي فيسمح له بتداول أفكاره في جو من الحرية والتناغم بين طوائف البشر في المجتمع، وفي يومنا هذا تطرح جميع الأفكار للنقاش فلا يجب السماح لأنفسنا بمجرد التفكير في قمع أي رأي أو إيذاء أو التشهير بأي شخص لمجرد أنه أتى بالغريب عنا، بل يجب أن تكون لغة البرهان هي السائدة وهي صاحبة الكلمة العليا فيكون النقاش المجتمعي المبني على أسس علمية هو الحل نحو تطور الأفكار في عالمنا المعاصر وهذا هو جوهر حرية الفكر والاعتقاد أتي أسس لها الإسلام “لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ” هي آية محورية في القرآن الكريم تنظر لحقيقة مفادها أنه لا إكراه ولا قيد ولا قمع للتنظيرات المختلفة، بل العكس هو الصحيح، فالمجتمع المدني له الحرية الكاملة في مناقشة كل الأفكار وعرضها على الساحة لبيان وجه الحقيقة الساطع وبهذا يعمل المجتمع على تطوير ذاته ولا يقع في قيد الظلام، فإطلاق العقل من قيد الجهل هو مطلب لا يحتاج إلى تعليل أو تفسير، فالإنسان بطبيعته باحث عن المعرفة والمعرفة والثقافة لا تكون بالتلقين والإجبار، بل بالحرية والبرهان والحجة الصحيحة.
قد دأب رجال الفلسفة السياسية على صياغة الشكل الأفضل للمجتمع فما بين جمهورية أفلاطون ومدينة الفارابي الفاضلة ومدينة العلم عند بيكون وغيرهم من الفلاسفة الذين اهتموا بالشأن المجتمعي كان العامل المشترك لكل أعمالهم الفلسفية السياسية هو التربية والتعليم، فلا توجد مدينة فاضلة أو مدينة عادلة بلا نظام حكيم للتربية والتعليم، لذلك يجب أن تتغير أولويات هذه الأمة حقا نحو التعليم والثقافة إذا كنا نأمل بناء مجتمع فاضل أو على الأقل أفضل في يوم من الأيام؛ لتستعيد هذه الأمة رشدها وليعلم الجميع أن الرشد ينافي الإكراه ” لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ ” فالسبيل نحو مجتمع صالح هو بأن نتخلص من أحادية التفكير في بلادنا، وليمنح الناس الفرصة لكي يتنفسوا ويستنشقوا نسمات الحرية التي تصب في النهاية في جعل هذا المجتمع مجتمعا عادلا في الأخير.
ما بين تقديس لكل قديم ومغالاة في الدفاع والمستميت الأعمى بالقول والفعل وما بين التدليس والنقد غير الموضوعي وغير المنهجي هنا يقبع عقل مجتمعنا، المسئولية صعبة على من اتخذ على عاتقه مهمة الإصلاح الفكري في أمتنا العزيزة، نفس طيبة خالصة وعقل صحيح لا يقبل إلا قويم الدليل، هذا هو نموذج الباحث عن الحقيقة، المعادلة صعبة جدا فأهواؤنا في أغلب الأحيان ما تتحكم بنا وقليل القليل يستطيع أن يسموا فوق طبائع البشر ويكون متجردا تجرد الحكماء الحق ويكون قلبه صافيا كصفاء السماء الزرقاء في الربيع، هؤلاء.. هؤلاء في رأيي هم أصحاب المشقة الكبرى في الدنيا والثواب العظيم في الآخرة، فاللهم اجعلنا من هؤلاء.