الأعمدة الأربعة
جلس الأستاذ على المكتب فى انتظار الإجابة من الطلاب، وفى ظل حالة العصف الذهنى التى خلقها كنت مشغولًا بأمور أخرى، كنت أتأمل في أستاذى، كيف كان يجمع بين الشباب والكهولة، كنا نشعر أنه منا وفى نفس الوقت كنا نعلم أن هناك حدودًا بيننا وبينه، كانت لديه تلك الهالة التى كانت لا تفارقه، وفى نفس الوقت يتباسط مع الجميع ويتودد إليهم، كان أحب الأساتذة فى كليتنا إلى الطلبة، على عكس باقى الأساتذة الذين كانوا دومًا يشعروننا أنهم آلهة الأوليمب، حانقين دومًا ولعناتهم تسبق رحمتهم!
أعادنى للواقع يده التى ربتت على كتفى بهدف الاستحواذ على انتباهى، ثم بدأ خيالى ينهش بأظافره فى ذاكرتى بغرض استعادة السؤال الذى بدأ به الأستاذ المحاضرة، أين هذا السؤال؟ ما كل هذه المواعيد والأحلام والمهام؟ متى خططت لكل هذا؟ علىّ أن أتذكرهم لاحقًا، وعلى الرف العلوى لذاكرتى وجدت السؤال “كيف يتعامل الإنسان العاقل مع من يحيط به؟” ثم بدأت الاستماع إلى الإجابات التى كانت تنصب من توجهات عرقية وعصبية، فمنهم من يقول بالعزلة لأن المجتمع فاسد ومنهم من يقول بتهذيب المجتمع بالقوة إذا لزم الأمر ومنهم من يقول بأنه إذا فسد المجتمع على الإنسان أن يرتحل إلى مجتمع آخر يناسبه وتوالت الإجابات وتنوعت وعلت الأصوات والخلافات.
تبسم الأستاذ وقال نحن فى حالة عصف ذهنى حيث كل الأقوال مباحة، لنبدأ مرحلة التحليل، فلنسأل سؤالًا لطيفًا وهو كيف وصلنا إلى هنا؟ لقد جئنا نتيجة بعض التطورات وانتقال من حالة إلى حالة، وهذا يتطلب تدافع من عدة أطراف، فأنت تأتى من منزل بناه جزء من المجتمع وتمشِى فى الشارع محميًّا بقوانين وضعها جزء من المجتمع، وتركب مواصلات عامة يقودها جزء من المجتمع، والخلاصة حياتك هى من المجتمع وإليه، إذن فرضيات انعزال المجتمع باطلة.
سكت التلاميذ، فأكمل الأستاذ كلامه، أخت لك تمشى فى الشارع ثم طرأ على مخيلتها مشهد مضحك، فتبسمت، وفى نفس الوقت جاءت عيناها فى عين شاب فظن أنها تتبسم له فبادلها التبسم، وفى نفس المشهد ظهر مُصلح ما قبض على تلابيب الشاب وفضحه وأساء الأدب مع البنت وكاد يضرب الشاب، ما رأيكم فى هذا الموقف، أترضاه لأختك؟ هى إنسانة جاءها خاطر وتبسمت، لا لا ذنب لها ومع ذلك جاء مُصلح يلبس ثياب حق القوة وأساء لها، فما حدث هو سرعة فى إصدار الأحكام، تحليل ظاهرى أحمق، والمُصلح عقلانى كما ذكرنا من قبل، إذن فرضية الإصلاح بالقوة وفرض الإصلاح بالعنف باطلة.
أردف الأستاذ، الآن نأتى لفرضية ترك المجتمع والارتحال إلى “يوتوبيا” أخرى، أحب أن أذكركم عندما تكلمنا فى أحد محاضراتنا عن فلسفة التاريخ، قلنا أن هناك نوعين من البشر، نوع ينظر للواقع فيأقلم نفسه عليه، ونوع يغير الواقع ليتألقم عليه، فلسفة التاريخ وحركة المجتمع تعتمد على النوع الثانى، والأكمل والأفضل أن يكون النوع الثانى حاملاً للحقيقة والفضيلة ولديه رؤية واقعية لما ينبغى أن يكون عليه الواقع، لذلك أمام الإنسان حلان لمعضلة الفساد المجتمعي، إما أن يرتحل حتى يجد “اليوتوبيا” المريحة وهذا أمر قد لا يدركه وإذا أدركه فلن نجد تطورًا فى حركة التاريخ، أو يصنع اليوتوبيا الخاصة به ليتطلع العالم إليها ويستمد منها مبادئه، ففرضية الهجرة والبحث عن النظام الأفضل باطلة.
ظل الأستاذ على هذا المنوال يتناقش ويفند الآراء حتى حار الطلاب وتساءلوا ماذا نفعل إذن؟
قال لهم هناك بيت نعيش فيه كلنا وهو المجتمع، له سقف وأربع أعمدة، والسقف هو وجودنا, ما يعبر عن استمرارية المجتمع وقيمته
،وللأعمدة أربع نصائح أو أساليب، بدونها يخر السقف علينا وننتهى.
العمود الأول هو المجتمع وهو برىء حتى تثبت إدانته، فهناك توجه أنه يحب التعامل مع الناس أنهم مذنبين ابتداءً، وينطلق من هذا المبدأ فتنقطع علاقات الود والمحبة بينه وبين الآخرين وهو أمر مطلوب فى أى اجتماع، الحب والمودة، فالكل برىء حتى يظهر العكس، وهذا يقودنا إلى العمود الثانى.
العمود الثانى يقول المجتمع جعلوه مجرماً، فحتى إذا ظهر من الناس ما يسيؤك وتستقبحه وتستنفر منه، كن مشفقًا عليهم واعلم أن الناس ليسوا أشرارًا بالذات، بل لظروف عرضت عليهم، فاكْره الحال التى عليها الناس ولا تبغض الناس، وهذا يقودنا للعمود الثالث.
العمود الثالث يقول أن المجتمع إصلاح وتهذيب، نعم المجتمع قابل للإصلاح لأن الطبيعة الإنسانية فسادها يدل على إمكانيه إصلاحها، فالذى فسد كان صالحًا، تغيرت حالته من أمر إلى أمر، فيمكن أن يكتسب ما يجعله صالحًا كما اكتسب ما جعله فاسدًا، وأكبر عامل يغير فى المجتمع هو عامل “القدوة” حيث الناس تنجذب للإنسان الصالح وتُخضع جوارحها له، وهذا يقودنا للعمود الرابع والأخير.
العمود الرابع يقول أنا أولًا، غير نفسك قبل أن تطالب من الناس التغيير، تهذيب النفس أولى، ففاقد الشىء لا يعطيه، هذب نفسك حتى يتهذب بك من حولك.
تلك الأعمدة الأربعة التى لا بد أن يعتمد عليها العقلاء فى تعاطيهم مع المعضلات المجتمعية.