فن وأدب - مقالاتمقالات

الأديب سعيد نوح ولعبة التجريب الدائم

بدأ الروائي سعيد نوح مسيرته الأدبية شاعر عامية، وسمعت بعض قصائده في ندوة جريدة “المساء” مع مطلع تسعينيات القرن العشرين، وكانت رائعة، وانتظرنا جميعًا ديوانه الأول، لكننا فوجئنا بأول رواية له “كلما رأيت بنتًا حلوة أقول يا سعاد”، التي لاقت اهتمامًا مناسبًا وقت صدورها لارتباطها بأمور إنسانية عميقة، ولبنائها المختلف وعفويتها.

بمرور الأيام أخذ النثر سعيد نوح من الشعر، لتصدر له روايات: “دائمًا ما أدعو الموتى” و”61 شارع زين الدين” و”أحزان الشماس” و”ملاك الفرصة الأخيرة” و”الكاتب والمهرج والملاك الذي هناك”، ومتتالية قصصية بعنوان “تمثال صغير لشكوكو”، في حين تبقى له أعمال أخرى حبيسة الأدراج أو على قائمة الانتظار في دور نشر وسلاسل أدبية حكومية، وهي روايات أخذت عناوين: “ما لم يقله المقدس فرج” و”كالماء أصله البحر” و”أم مليحة”، فضلًا عن مجموعتين قصصيتين عنوانهما: “لم يكن يجب على الملائكة” و”كما كان يجب على الملائكة”، وعدة سيناريوهات لمسلسلات وأفلام لم تجد طريقها إلى التنفيذ حتى الآن.

نبذة عن المؤلف سعيد نوح

لعل عناوين أعمال نوح دالة على عالمه الذي يرواح بين واقعية فجة قاتمة وكابوسية، وخيال مجنح وغرائبية لا تحدها قيود ولا تمنعها سدود، وفي الحالتين فهو لا يضع عينه أو يُسخِّر قلمه لخدمة السائد والرائج والمطلوب إنما يكتب ما يروق له، معولًا على أن الأيام وحدها ستنتصر له، حين يأتي من يتفاعل بإيجابية مع نصوصه، ويسبر أغوارها، ويفهم أعماقها، ويعطي صاحبها مكانه اللائق بين الساردين.

ثلاث سمات بارزة في المنتج الروائي لنوح عمومًا، أولها الكتابة العفوية المتدفقة التي تجعل قلمه في كثير من الأحيان مأخوذًا برغبة جارفة في كتابة ما يعن على الذهن ويفيض به الوجدان. وثانيها العمق الصوفي الواضح في النظر إلى الطبيعة البشرية، وعلاقة الخالق بالمخلوق، والخير بالشر. والثالثة الرغبة في الاختلاف عن طريق الدخول إلى مساحات غير مأهولة بأسلوب جديد في المعالجة، وإن كان قد استفاد من المنتج الروائي الغرائبي العربي والأجنبي من دون أن يقلده أو ينقل عنه.

الأعمال الإبداعية المنشورة للروائي سعيد نوح

في “الكاتب والمهرج والملاك الذي هناك”، نحن أمام ملائكة بوسعهم أن يشاطروا الناس كثيرًا من أفراحهم وأتراحهم، وأحلامهم وآمالهم، ومخاوفهم ووساوسهم، ويقفون شهودًا على المفارقات والتناقضات والفواجع التي وصمت سلوك البشر وتدابيرهم في مصر على مدار ثلاثين عامًا من حكم مبارك، وتتابع هروبهم من واقعهم المؤلم إلى عالم المخدرات لتغييب الذهن أو البحث عن سلوى خادعة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

رواية “ملاك الفرصة الأخيرة”

في رواية “ملاك الفرصة الأخيرة” يقفز سعيد نوح قفزة غاية في الجرأة حين يعيد صياغة قصة الخلق صياغة مختلفة عن تلك السائدة في الكتب السماوية، أو في الأساطير البابلية والفرعونية التي حوتها “الجيبتانا”، ويصنع مغامرة سردية في اتجاهين، أحدهما فانتازي يهز كثيرًا من الثابت والراسخ والوثوقي ويفتح الجدل حول البدايات والمسلمات بلا حذر ولا تحسب، والثاني واقعي يدور حول فلسلطين بوصفها قضية العرب المركزية، ولا يجد الكاتب أي عناء أو غرابة في التوليف أو المقاربة بين هذين الأمرين المتباعدين، لا سيما أن روايته نابعة من خيال واسع.

رواية “61 شارع زين الدين”

سعيد نوح

يجرب نوح في روايته الموسومة بـ”61 شارع زين الدين” تجريبًا مغايرًا، إذ تتعدد الأصوات وتتنوع مستويات السرد، رغم أن الحكاية تغرف من الواقع وترصد جانبًا من حياة المهمشين، فالنص يسرده راوٍ عليم، هو الكاتب نفسه، الذي لا يجد غضاضة في الدخول إلى ثنايا النص ومتنه، والإمساك بمصائر الشخصيات، أو دفعها إلى التمرد في بعض المواقف، وإتاحة الفرصة لها لمراجعة المؤلف كي يعدل مسارها، مثلما نرى في حوار على لسان شخصيات الرواية التي تلاقت لتعرف المصير الذي اختاره لها المؤلف، ثم ترفضه لأنه في نظرها كاتب خائب يتجنى عليها، ولذا تقول له: “أيها السيد الكاتب المتحكم فينا، نحن عبيدك. يا عالي الجناب اسمع منا كلمة واحدة ووحيدة لا تغامر إذ يناديك السراب”.

رواية “كلما رأيت بنتًا حلوة أقول يا سعاد”

في رواية “كلما رأيت بنتًا حلوة أقول يا سعاد” يستفيد نوح من تقنيات السينما، ولا يتقيد بالشكل التقليدي السائد للرواية، دون أن يفقد العلاقة الحميمة بشخصيات أعماله، لا سيما أن هذه الرواية هي تجربة خاصة له، إذ يعرض الارتباط العاطفي والإنساني النبيل والنازع إلى الصوفية بين أخ بسيط وأخت كانت محاطة بحب الجميع واحترامهم، لطهرها وصدقها وحدبها على كل من حولها. والأخ هنا هو المؤلف ذاته، والأخت في الرواية كانت أخته في الواقع التي انتقلت إلى رحمة ربها وهي في ميعة الصبا، ولهذا مارس سعيد طريقته التي حفلت بها رواياته اللاحقة بتدخله في النص وذكر شخصيات حقيقية، والانتقال العفوي بين تسجيل الواقع والتخييل.

رواية “أحزان الشماس”

سعيد نوح

أما في رواية “أحزان الشماس”، التي ظلت حبيسة الأدراج لسنوات عديدة، فيقتحم نوح عالم الرهبان في أحد الأديرة بصعيد مصر، عبر مسار طفل يدعى جرجس يبلغ من العمر 11 عامًا وهو كفيف، وحين يزور الدير بصحبة أبيه يسمع ترنيمة “الأم الحنون” بصوت قساوسة وشمامسة، فتترك في نفسه أثرًا عميقًا، ويتمنى أن يتضخم إلى هؤلاء النساك المنقطعين للعبادة.

يكون له ما أراد، فتظهر له معجزات ويفيض الخير على يديه، وهذا يثير حفيظة الراهب “متى” فيتآمر عليه، وينجح في إبعاده عن تلقي الاعترافات، ويرسله إلى الجبل بدعوى أنه في حاجة ماسة إلى التطهر، وهناك يقابل “تريزا” ويتزوجها ويرزق منها بطفل، حين يأتي وقت تعميده لا يبكي، فيقال إنه من أوصى به المسيح وينتظره في الملكوت، ولذا ينشغل ذهن “جرجس” بابنه، ومع هذا حرص على أن يبتعد عنه حتى لا يفرط في التعلق به، ويهمل شغله وأم ولده، التي تظن أن قلبه قد هام بامرأة غيرها.

لكن يسترد وعيه حين يحضر تعميد طفل آخر لا يبكي فيقول عنه الكاهن ما قاله عن ابن “جرجس”، فيعود الأب إلى أسرته يرعاها، لكن يفجعه موت ابنه وهو في الثامنة عشر من عمره، فيموت بعده بتسع عشرة ليلة. وفي ثنايا هذه الحكاية يرسم سعيد نوح ملامح الحياة داخل الدير، ويظهر معرفة بأسرارها وطقوسها ولغتها المتبادلة، ويميط اللثام عن المسكوت عنها في السرد المصري، باستثناء أعمال قليلة.

هكذا تمضي المسيرة الروائية لسعيد نوح نابعة من تجربته الذاتية أو خبرته الشخصية المباشرة والصريحة، والتي ينقل عنها من دون مواربة، وكذلك حصيلة تأملاته الوجدانية التي يحلو له أن يتحدث عنها طويلًا واصفًا إياها بـ”الميول الصوفية الجلية”، وأيضًا قراءاته المتتابعة للآداب العربية والعالمية، وهي قراءة متأنية وعميقة إلى درجة أنه يضع خطوطًا تحت عبارات تعجبه أو صور جمالية تروق له وتدهشه، وقد ينقلها في أوراقه الخاصة ليتدبرها قبل أن يقدم على عمل جديد أو في أثناء كتابته، ليتناص معها أو يشاكسها.

مقالات ذات صلة:

شعر وسحر تقتلهما كوابيس مزمنة

مرسي جميل عزيز

عميد الأدب العربي طه حسين

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري