سياسات تشكيل المستقبل!
في سنة 2015، ذهب قرابة عشرين شخصًا من سُكان بلدة «ياهابا» Yahaba (وهي بلدة صغيرة تابعة لولاية «إيواتي» Iwate شمال شرق اليابان) إلى مبنى البلدية الخاص بهم للمشاركة في تجربة فريدة من نوعها.
كان هدف التجربة هو تصميم سياسات من شأنها تشكيل مستقبل بلدتهم، ما يعني طرح الأسئلة المُخصصة للسياسيين ومحاولة الإجابة عنها:
- هل من الأفضل أن نستثمر في البنية التحتية أم في رعاية الأطفال؟
- وهل يجب أن نُشجع الطاقة المُتجددة أم الزراعة الاصطناعية؟
- وهل نعمل وفق خُطط قصيرة الأجل تُحقق مصالح الجيل الحالي، أم وفق خُطط بعيدة الأجل تنظر بعين الاهتمام لحاجات الأجيال التالية؟
وللإجابة عن هذه التساؤلات وفق رؤية مستقبلية تم تقسيم المشاركين إلى مجموعتين؛ الأولى ظل أعضاؤها بملابسهم وهيئاتهم المعتادة كممثلين للجيل الحالي، والثانية ارتدى أعضاؤها معاطف احتفالية رمزية صفراء وطُلب منهم أن يتخيلوا أنهم يعيشون في سنة 2060، أي أنهم يُمثلون مصالح جيل من أجيال المستقبل خلال التجربة.
نتائج تجربة تصميم المستقبل في اليابان
نتائج التجربة جاءت مُذهلة حقًا؛ الذين مثلوا الجيل الحالي دافعوا عن سياسات من شأنها تعزيز مصالحهم الحياتية على المدى القصير.
أما الذين ارتدوا معاطف المستقبل فقد دافعوا عن سياسات أكثر راديكالية، بدايةً من استثمارات الرعاية الصحية الضخمة، ومرورًا ببرامج التعليم وأخلاقيات البحث العلمي وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، ووصولاً إلى إجراءات تغيير المُناخ والحفاظ على البيئة.
لقد تمكنوا من إقناع الآخرين بأن هذه السياسات ستعود بالنفع على أحفادهم على المدى الطويل، وتوصل أعضاء المجموعة بأكملها في النهاية إلى أنهم ينبغي عليهم التصرف –من بعض النواحي– ضد مصالحهم الآنية الذاتية والمباشرة من أجل مساعدة أبناء المستقبل.
تكرار التجربة
شكلت هذه التجربة منطلقًا لتدشين «حركة تصميم المستقبل في اليابان» Japan’s Future Design movement، وتم تكرار التجربة في أكثر من مدينة وبلدة بجميع أنحاء اليابان كنموذج لمحاولة الإجابة عن تساؤلات أخلاقية كُبرى قد لا نُلقي لها بالًا اليوم في خضم الأزمات السياسية والاقتصادية المتتالية، لعل أهمها:
- هل نحن مدينون للأجيال القادمة بوضع مصالحها نُصب أعيننا؟
- وما هي هذه المصالح على وجه التحديد؟
- وكيف يمكن أن نكون أسلافًا صالحين؟
مؤسس حركة تصميم المستقبل في اليابان
تم تأسيس هذه الحركة بدعوة من أستاذ الاقتصاد الياباني «تاتسويوشي سايجو» Tatsuyoshi Saijo (مدير معهد أبحاث التصميم المستقبلي في جامعة كوتشي للتكنولوجياResearch Institute for Future Design at Kochi University of Technology)، مستوحيًا فكرته من «مبدأ صنع القرار الممتد إلى الجيل السابع» Seventh-generation decision making الذي كان شائعًا في مجتمعات الأمريكيين الأصليين، والذي يتضمن تقييم كيفية تأثير الخيارات التي يتم اتخاذها اليوم على الشخص المولود بعد سبعة أجيال من الآن.
أهمية التفكير على المدى البعيد
ربما لم يفكر معظمنا كثيرًا في الكيفية التي يُمكن بها أن نصبح أسلافًا صالحين، بل وربما كان من الصعب حقًا التركيز على المستقبل عندما نفكر تحت وطأة مشاكلنا التي تزداد حدةً يومًا بعد يوم،
وكذلك عندما تتجه كل مراكز صُنع القرار في المجتمع، بما في ذلك مؤسساتنا السياسية (المحكومة بدورات انتخابية ذات مُدد زمنية مُحددة)، وبرامجنا الاستثمارية (الخاضعة لهيمنة رأس المال والرغبة في تحقيق المكاسب السريعة) إلى تفضيل الحلول قصيرة المدى.
ومع ذلك، فإن الفشل في التفكير على المدى البعيد يُمثل مشكلة أضخم مما قد نتصور: مشكلة التهديد بالقضاء على الجنس البشري برُمته!
وتؤكد المعطيات الحالية مثل تقلبات المُناخ، وارتفاع درجة حرارة الكوكب المُثقل بنا، وتفشي الأوبئة، وتعاظم إمكانات الذكاء الاصطناعي بما قد يتجاوز قدرات الإنسان، إلخ، أنه لا يكفي اعتماد «الاستدامة» Sustainability ككلمة رنانة نُزين بها خُطبنا السياسية وشعاراتنا الانتخابية.
بل نحن في حاجة –إن أردنا حقًا أن تكون الحياة البشرية مستدامة– إلى تجاوز تركيزنا على الحاضر وتدريب أنفسنا على تبني وجهات نظر طويلة المدى، بغض النظر عما نُكابده اليوم. وبعبارة أخرى، نحن في حاجة إلى تجاوز المقولة الشائعة: أحيني اليوم ودعني أموت غدًا، لأن الغد ملك أجيال أخرى ستحاكمنا غيابيًا على صفحات التاريخ، وربما صبَّت علينا اللعنات يومًا ما!
اقرأ أيضاً:
الفطرة الإنسانية
قد يُجادل أحدهم متسائلًا: لماذا يجب أن أهتم بأناسٍ لم يُوجدوا بعد؟ أليس عليهم أن يتحملوا تبعاتنا كما تحملنا تبعات من قبلنا؟ هذه الحجة مردودٌ عليها بتجربة فكرية بسيطة: تخيل طفلًا يكابد الغرق أمامك في بِركة موحلة،
وبإمكانك أن تخوض في هذه البِركة لإنقاذه، قطعًا ستتسخ ملابسك، وربما كانت أفضل ما لديك، لكنك لن تكون في خطر يُهدد حياتك، ألا يجب عليك أن تقوم بإنقاذه؟ بالطبع يجب عليك أن تفعل ذلك، تلك إجابة تفرضها الفطرة الإنسانية.
الآن ماذا لو أخبرتك أن هذه الطفل الذي يُكابد الغرق على الجانب الآخر من العالم، ويمر بجواره شخصٌ مثلك بإمكانه إنقاذه، ألا يجب عليه أن يقوم بإنقاذه مثلما هو الحال بالنسبة لك حين كان الطفل أمامك؟ نعم، تلك مواقف نتفق عليها جميعًا، فالألم والمعاناة والضمير والرحمة واحدة، ولن تكون المسافة المكانية هنا ذات صلة من المنظور الأخلاقي.
إذا كنت تعتقد ذلك، فمن الصعب معرفة سبب اختلاف الحالة الزمنية، فلئن كان هناك طفلٌ سيُكابد الموت بعد ثلاثمائة عام من الآن، وكان بإمكانك إنقاذه، فقد وجب عليك فعل ذلك، ولن تكون المسافة الزمنية أقل أهمية من المسافة المكانية!
كيف نُفكر على المدى البعيد
يقدم الفيلسوف الأسترالي «رومان كرزناريك» Roman Krznaric، مؤلف كتاب: «السلف الصالح: كيف نُفكر على المدى البعيد في عالمٍ قصير المدى» The Good Ancestor: How to Think Long Term in a Short-Term World (2020)، تشبيهًا أكثر وضوحًا بقوله: «إذا كان من الخطأ زرع قنبلة في قطار، بحيث يؤدي انفجارها إلى قتل مجموعة من الأطفال في الوقت الحالي، فمن الخطأ أيضًا القيام بذلك سواء أكانت القنبلة ستنفجر في غضون عشر دقائق أو عشر ساعات أو عشر سنوات»!
قضية تغير المناخ أمام المحاكم
من جهة أخرى، يبدو أن الوعي بحقوق أجيال المستقبل قد اتخذ خلال العقد الأخير بُعدًا قانونيًا تنفيذيًا موازيًا للبُعد الفلسفي التنظيري؛ في سنة 2015 رفع واحد وعشرون شابًا وشابة، تتراوح أعمارهم بين الحادية عشرة والثانية والعشرين،
دعوى قضائية كبرى ضد الحكومة الأميركية (عُرفت باسم قضية «جوليانا ضد الولايات المتحدة الأميركية» Juliana v. United States of America) لإخفاقها في الحد من تأثيرات التغير المناخي.
ودفع المدّعون بأن فشل الحكومة في حماية البيئة ينتهك حقوقهم الدستورية وحقوق الأجيال التالية في الحماية المتساوية بموجب القانون والإجراءات القانونية الواجبة، كونهم مضطرين للتعايش مع تداعيات ظاهرة الاحتباس الحراري العالمي وتأثيراتها المُحتملة في المستقبل.
وفي سنة 2019 رفع خمسة عشر طفلًا ومُراهقًا في كندا دعوى قضائية مماثلة. وفي العام ذاته، أصدرت المحكمة العليا في هولندا حكمًا رائدًا يأمر الحكومة بخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، مشيرةً إلى واجبها في رعاية الأجيال الحالية والمستقبلية.
حقوق الأجيال القادمة
وفي أبريل من سنة 2021 قضت المحكمة الدستورية الفيدرالية الألمانية أيضًا بأن تدابير المناخ الحالية للحكومة ليست جيدة بما يكفي لحماية الأجيال القادمة، ومنحتها مهلة حتى نهاية سنة 2022 لتحسين أهدافها الخاصة بانبعاثات الكربون.
وفي الشهر ذاته (أبريل 2021) أصدرت المحكمة العليا الباكستانية حُكمًا تاريخيًا ضد توسع الحكومة والقطاع الخاص في صناعة الأسمنت في مناطق معينة من البنجاب، مشيرةً إلى أنه أمرٌ مروع بالنسبة للمناخ، وجاء في حيثيات الحُكم:
«المأساة هي أن أجيال الغد ليست هنا بحيث يُمكنها أن تعترض على هذا النهب لميراثهم، إن الغالبية العظمى الصامتة من الأجيال القادمة عاجزة بحُكم عدم وجودها الفعلي بعد، وهي في حاجة إلى صوت. يجب أن تضع هذه المحكمة في اعتبارها أن قراراتها تفصل أيضًا في حقوق الأجيال القادمة في هذا البلد»!
غياب الرؤية المستقبلية
من جانبه يذهب الفيلسوف الأسترالي «بيتر سنجر» Peter Singer إلى أن هذه الدعاوى وغيرها إنما تمثل نقطة تحول تاريخية لأنها تتعرض لحقوق الأطفال وأجيال المستقبل عمومًا في بيئة صالحة للعيش، بل وتتجاوز في مغزاها ونتائجها حدود قضية التلوث البيئي،
فلو نظرنا مثلًا إلى قضية الدين العام، لوجدنا أنه لطالما كانت هناك اعتراضات أخلاقية على إقدام جيل معين على تحميل الجيل الذي يليه أعباء دين باهظ،
مما يقيد حرية الشباب مستقبلًا بصورة مؤثرة، ويحول بينهم وبين بناء الأسر، وتعليم الأبناء، وتكوين ثروات. ومع ارتفاع عجز الميزانية في كثرة من الدول في معية الأزمات الاقتصادية الحالية، يغدو الأمر خطيرًا بالنسبة للأجيال التالية.
المشكلة تتمثل بوضوح في غياب النظرة المستقبلية تحت وطأة المصالح الآنية الخاصة للسياسيين، أولئك الذين يقيسون النجاح بالشهور أو الأعوام القليلة التي يمكنهم الاستمرار خلالها في مواقعهم،
شأنهم في ذلك شأن معارضي إنهاء العبودية في خمسينيات القرن التاسع عشر، لكن علينا أن ننتبه، فنحن لا نملك تغيير الماضي، لكن حاضرنا يُشكل مستقبل أحفادنا، والمستقبل ببساطة هو ما نصنعه اليوم لهم!
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
**************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا