مجتمع الفرجة وإنسان الشاشة
منذ نحو ثلاثين عامًا رأيت مشهدًا لم يغب عن ذهني حتى الآن، لما له من دلالة، وما يتمتع به من غرابة.
فقد كنت طالبًا جامعيًا، وقتها، وكنت أتردد على صديق لي في حي إمبابة، مسقط رأسي، لمذاكرة دروس القانون. وفي أحد الأيام وجدت في طريقي مجموعة من الناس تقف على هيئة دائرة في مركزها أحد الحواة، الذي كان يقدم عروضه في مشهد كان مألوفًا في ذلك الزمان.
ولأني كنت من هواة مشاهدة هذا النوع من عروض الشوارع منذ كنت طفلًا صغيرًا، فقد وقفت لعدة دقائق للفرجة على ألعاب هذا الحاوي، المفتول العضلات، صاحب الملامح القاسية، والصوت الجهوري الذي ينم عن الثقة والسيطرة، الذي من فرط قوته تشعر كأنه إنما يتوجّه بكلماته إلى الكون كله لا إلى تلك الحفنة القليلة من البشر، الراغبين في المتعة المجانية، وإشباع الفضول.
في هذه الأثناء اختار الحاوي، وكان يُدعى سيد، أربعة رجال أشداء من بين الجمهور، وكان من ضمنهم شاب مجند يرتدي زيًا عسكريًا –في إشارة إلى صعوبة التحدي– وطلب منهم أن يحكموا وثاقه بحبل خشن وغليظ. هنا انبرى مجموعة الرجال الأشداء في لف الحاوي وتكتيفه بالحبال، كأنه من أسرى الحرب الذين ضلوا الطريق، فالتقطهم معسكر الأعداء.
رغم الحالة التي يُرثي لها التي كان عليها “سيد الحاوي”، فقد كان يتعمد القيام بأداء تمثيلي، يجمع فيه بين القوة والشعور بالإنهاك في الوقت نفسه، حتى يمكنه أن ينتزع إعجاب الجماهير وتعاطفهم كذلك.
غير أن المثير والغريب في الموقف أن “سيد” توقف فجأة عن محاولة فك الحبل، وطلب من زوجته، التي كانت تقف بجواره داخل دائرة المتفرجين، أن تقوم بلم النقود من الجمهور في طبق كانت تمسكه بيدها، وما إن انتهت، حتى طلب منها أن تعد النقود التي في الطبق.
عندما علم أن المبلغ لم يتجاوز الجنيهات الثلاثة جن جنونه، وأخذ يلقي بخطبة عصماء، لا تخلو من تهديد ووعيد، مفصحًا عن نوع خاص وشاذ من التفلسف خلاصته أنه يملك من القوة ما يمكّنه من اختيار طريق الشر والاستيلاء على أموال الآخرين عنوة، وأنه رغم ذلك اختار الطريق المشروعة، وآثر أن يكسب المال بالحلال، غير أن جمهور المتفرجين بموقفه البخيل هذا، إنما يأبى إلا أن يدفعه إلى طريق الشيطان، ولأنه ما زال حريصًا على سلك الطريق المشروعة، فلن يفك نفسه إلا إذا امتلأ الطبق بعشرة جنيهات على الأقل، وطلب من زوجته القيام بدورة ثانية حول الجمهور للم المبلغ الذي اشترطه لتحرير نفسه!
عرض تمثيلي محض
وهنا تركتُ المشهد كاملًا حتى لا أتأخر عن موعدي، ولأني لم أعتد دفع مقابل لقاء فرجتي على عروض الحواة التي تُقام في الشوارع. غير أني ظللت أتساءل: إذا كان الحاوي هو الذي اختار القيد بنفسه، فلماذا يطالبنا بدفع ثمن حريته؟! وماذا لو انفضّ الناس من حوله دون أن يدفعوا شيئًا مما طلب؟ هل يترك نفسه مقيدًا إلى ما لا نهاية؟!
بالطبع لا، فالحاوي لا بد أنه في كل الأحوال سيعمل على فك قيده، بخاصة أن الموضوع برمته محض عرض تمثيلي، وربما كان هذا هو المسوغ الشرعي لمطلب “سيد الحاوي”، الذي يبدو غريبًا. فالمتفرجون هنا أشبه بجمهور السينما أو المسرح أو حتى مباريات الكرة، والفرق الوحيد أن عروض الحواة تُقدم في الشوارع وليس لها تذاكر ورسوم محددة. غير أن المتفرجين على الحاوي من جانبهم ربما يرون أن العروض التي في الشارع لا تقدم مع العرض خدمة حقيقية للجمهور، فليس ثمة مقاعد أو أضواء صناعية أو تكييفات، وإنما المناخ كله طبيعي، والعرض بهذه المنزلة يعتمد على السلع الحرة التي وفرها الله سبحانه وتعالى لكل البشر.
حل مبتكر
الحقيقة أن مسألة الفرجة نفسها وارتباطها بالعرض هي أساس تحديد القيمة، بخاصة أن الحاوي يبذل جهدًا بدنيًا وذهنيًا، ويقدم عروضه بمهارة خاصة لا تتوفر لكثيرين، وكلها أمور تستحق المقابل المادي، كأي سلعة ذات قيمة، بجانب التقدير الأدبي والمعنوي المتمثل في تصفيق الجمهور وصياحه في أثناء أداء الحاوي.
المفارقة، أن الحاوي نفسه –ربما لأنه حاوٍ– قد نجح في تقديم حل مبتكر لهذه المسألة. ففي المنطقة الشعبية ذاتها، وفي تاريخ أبعد، كنت قد اعتدت في الإجازة الصيفية على مشاهدة “رضا الحاوي” عصر كل يوم. ولم يكن “رضا” محض حاوٍ وإنما كان يشكل سيركًا شبه كامل، بمفرده أحيانًا وبمساعدة بعض معاونيه في أحيان أخرى، فكان يقوم بالألعاب الخطرة بنفسه وبالعروض السحرية كذلك. والحل الذي قدمه “رضا” كان توزيع بعض الهدايا المتواضعة على الجمهور بأسعار في متناول الجميع، ولا يلتزم بالدفع إلا من يرغب في اقتناء الهدية، وكان الإقبال عليها شديدًا، لأنه كان يضعها في أكياس ورقية مغلقة، بحيث يدخل عنصر الحظ في عملية الشراء، بخاصة أن بعض الأكياس كان يحتوى على هدايا قيّمة نسبيًا والبعض الآخر كان بداخله هدايا رخيصة، وهكذا.
ذكاء “رضا” هنا يكمن في قدرته على تحويل العرض إلى وسيلة لجذب الجمهور لشراء هداياه المتواضعة ضعيفة القيمة. والحقيقة أن كلا الرجلين، الذي جعل من العرض سلعة ذات قيمة عالية، والذي جعل منه وسيلة لترويج سلعة أخرى رخيصة، إنما يلخصان المشهد الحالي لإنسان هذا العصر.
افتعال الأزمات للتحكم في الشعوب
ففي ظل مصطلحات “مجتمع الفرجة” و”إنسان الشاشة” أصبحت الرؤية الحاسة الأكثر استخدامًا والأكثر استهدافًا. وفي هذا السياق أصبح نموذج “رضا الحاوي” السائد في المجال الاقتصادي، ونموذج “سيد الحاوي” السائد في المجال السياسي.
ففي ظل عالم يسيطر عليه الفكر الرأسمالي، ولا يهدف إلا إلى الربح المادي الصرف، تنفق الشركات التجارية مبالغ ضخمة من أجل تقديم صورة جذابة ومبهرة بالإعلانات، للترويج لسلع استهلاكية وهمية قياسًا بالعروض الخرافية الضخمة، التي تخلب الألباب، وتدفع المشاهدين إلى التكالب على شراء السلع موضوع الإعلان.
وفي عالمٍ البقاء فيه للأقوى حتى لو لم يكن على حق، يختار الأقوى –أو يصنع– المأزق الذي يضع نفسه فيه على مرأى ومسمع من الجميع، ثم يعود ليخلص نفسه منه بمهارة يُحسد عليها، على أن تسدد الشعوب فاتورة الإنقاذ أو ضريبة النجاة.
إن استراتيجية خلق الأزمات، والخروج منها، واحدة من الحيل السياسية القديمة الجديدة في آن، ربما بسبب فقر الخيال السياسي، وربما بسبب عجز الجماهير عن تطوير أدواتهم في الفهم والقدرة على قراءة الواقع سياسيًا وإعلاميًا.
إن أهم ما يميز عالم الحياة المعاصرة إنما هو سيطرة نموذج السيرك وعروض الحواة. وما يميز جمهور هذا الزمان أنهم يدفعون دائمًا –وفي كل الأحوال– رغبةً في الراحة الطويلة والمتعة غير المتناهية، حتى أنهم من فرط استغراقهم في الفرجة أدركوا أن سر السعادة لا يكون في القدرة على الفهم وكشف الألاعيب، وإنما في التظاهر بالتصديق وانعدام الفهم، حتى تستمر اللعبة إلى ما لا نهاية، وتتضاعف اللذة دون حد.
مقالات ذات صلة:
الاقتصاد الجديد .. اقتصاد المستقبل
أسباب التضخم وآثاره على المجتمع والإنتاج
أوقات الأزمات وتجلي التفكير العلمي
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا