اعرف نفسك: نحو إثارة للطاقات الجوانية للإنسان
يعد مبدأ “اعرف نفسك بنفسك” واحدا من أهم المبادئ التي تشغل حيزا كبيرا من اهتمام علماء النفس، وفلاسفة الأخلاق، والطب النفسي، إلخ.
فهو يرجع في حقيقة الأمر إلى الحضارة اليونانية، فقد وجده الفيلسوف اليوناني “سقراط” منقوشا على واجهة معبد “دلفي” في القرن الخامس قبل الميلاد تقريبا، وهو ما لفت انتباهه إذ أخذ يردده على تلاميذه في كثير من حواراته معهم، حتى أصبح هذا المبدأ مبدءا أصيلا في فلسفته، تقوم عليه نظريتيه المعرفية والأخلاقية. ولكننا سنحاول تقديم فهم جديد لذلك الشعار ندمج في تأويل مضمونه بين الفسيولوجيا وفلسفة الفعل كضرورة وجودية للإنسان.
ما وراء الشعار
رفع “سقراط” شعار (اعرف نفسك بنفسك)، فعندما نحلل هذا الشعار نجد أنه يتكون من ثلاثة أجزاء، وهي: “اعرف”، و”نفسك”، و”بنفسك”، فـ”اعرف” هو فعل أمر يهدف “سقراط” من ورائه مخاطبة جميع البشر وليس فئة بعينها، فلم يقل “اعرف أيها الطفل”، أو “اعرف أيها الشاب”، أو “اعرف أيها الشيخ”، بل كان يخاطب جميع البشر بمختلف مراحلهم العمرية، آمِرا إياهم بأن يتعرفوا على أنفسهم، كما أن هذا الشعار غير موجه لشخص بعينه، بل كان موجها لجميع البشر دون استثناء.
ولنا أن نتساءل، ما الذي يطلب سقراط أن تتم معرفته؟ فهو يطلب من كل إنسان أن يعرف “نفسه”، ذاك القبس النوراني الموجود داخل كل إنسان، فهو لم يطلب معرفة الجسد لأنه ليس له قيمة دون نفس تسكن داخله، فهي التي تتحكم فيه وتقوده للقيام بما ينبغي فعله، فمتى عرف كل إنسان نفسه سيعرف بالضرورة ماهيتها، وأوجه علاقتها بالله من ناحية، وعلاقتها بالجسد من ناحية ثانية، وعلاقتها بالنفوس الأخرى من ناحية ثالثة.
كما أن هذه المعرفة لا تتحقق على الوجه الأمثل إلا من خلال “الإنسان ذاته” –وهو المقصود بكلمة (بنفسك) – فالإنسان هو فحسب الذي لديه القدرة الكاملة على أن يتعرف على نفسه ليجعلها تكشف النقاب عن نفسها، ولتتحرر من سجنها، ولتتحدث بصوت عال عن ذاتها، من أجل أن تكون حاضرة حضورا فعالا في وجودية الإنسان.
المعرفة الحقيقية
أما الإنسان الآخر، فمهما امتلك من الوسائل والأدوات لن يتمكن من “معرفة نفس” إنسان آخر بشكل كامل وواضح ودقيق، بل المعرفة الحقيقية تتجلى من خلال الإنسان ذاته لا من شخص آخر غيره، ولهذا لم يكن الشعار (اعرف نفسك بنفس إنسان آخر غيرك)، وهو بهذا يرفض أية واسطة للتدخل بين الإنسان ونفسه، فالواسطة الفسيولوجية ليس لها وجود في قاموس سقراط الأخلاقي والمعرفي على حد سواء.
فشعار سقراط كان بمثابة فرض عين على كل إنسان في كل زمان أو مكان، فأهمية معرفة الإنسان لنفسه لم ترتبط بمكان معين أو بزمان معين أو بحدث محدد أو بمرحلة عمرية محددة، بل هي ضرورة إبستمولوجية وفسيولوجية وأخلاقية على كل إنسان، هذا فضلا عن أنه يجب أن تكون هذه المعرفة مستمرة ومتواصلة، بمعنى أنه على كل إنسان أن يجدد تلك المعرفة من حين لآخر.
فمتى عرف الإنسان نفسه، سيعرف بالضرورة كلا من: إمكانياته، وطاقاته، وقدراته، وحدوده، ورغباته، إلخ، ومتى تحقق ذلك سيتمكن من رسم حيز عمله والأعمال الأكثر اتفاقا معه، والرغبات التي تتوافق وأسلوب حياته التي يرغب في أن يحيى في كنفها، وهو ما سيحقق له عيش حياة متسقة مع ذاتها تخلو من المتناقضات، هذا فضلا عن السلام الداخلي الذي يتحقق من خلال نجاحه في عملية الموازنة بين أهداف نفسه وأهواء جسده، كما أن معرفة النفس معرفة حِيادية من شأنها أن تجعل الإنسان يعيش وجوديته بشكل يحقق السعادة الداخلية له، وهو ما ينعكس بالإيجاب على سعادة الآخرين المحيطين به.
الخروج من نطاق المعرفة إلى استثمارها
كما يمكن القول أن شعار (اعرف نفسك بنفسك) لا يشير إلى محاولة التعرف على الطاقات الكامنة داخل النفس فحسب، بل يشير في حقيقة الأمر إلى ضرورة التعرف على تلك الطاقات لا محالة، وجعل عملية المعرفة أمرا ضروريا، فإخراج طاقات الإنسان من حالة سكونها أمر ضروري للتقدم الإنساني في فعله تجاه الطبيعة وفي علاقاته تجاه الآخرين.
فتوجد داخل كل إنسان طاقات متنوعة ومتعددة، فهناك من يخرجها للعالم الخارجي ليجعلها حاضرة في كل فعل وقرار وتصرف، وهناك من لا يسعي لإثارتها بل يبقيها في حالة خمول ونوم دائم، وهنا ستصبح والعدم سواء، وهو ما ينعكس بشكل سلبي على حياة الإنسان بأكملها.
بكل تأكيد المعرفة وحدها لا تكفي، فهناك من يعرف نفسه أدق معرفة، ولكن لا يستثمر تلك المعرفة في المحيط الخارجي، ولا يُخرج هذه المعرفة إلى حيز التطبيق العملي، فبالتالي هناك فرق بين المعرفة فحسب، وإخراج تلك المعرفة للاستثمار العملي، وهناك أمر هام ثالث يقف وراء المعرفة واستثمار هذه المعرفة ألا وهو المنهج المتبع في كليهما، والذي يجب أن يقوم على التفكير المنطقي من ناحية، والتأمل الداخلي من ناحية أخرى مع الوضع في الاعتبار القيم الأخلاقية القائمة على العقل الطبيعي.
وهنا نصل إلى ما يمكن أن نطلق عليه “فلسفة الفعل”، والتي يمكن بلورتها في عدة مراحل هي: معرفة النفس الإنسانية، وتعقل تلك المعرفة، ثم القيام بعملية الموازنة بين تلك المعرفة والسياقات الخارجية وفقا لمنهج منطقي تأملي، وأخيرا تدبر النتائج المرجوّة من وراء ذلك الفعل.