من القائل اعرف نفسك بنفسك.. وما معناها
جملة اشتهر بها طاليس أحد ساسة اليونان قديمًا، والتى تحولت فيما بعد على جدران معبد دلف إلى ” اعرف نفسك بنفسك”، ليتخذها سقراط الفيلسوف اليونانى العظيم شعارًا لمسعاه فى سبر غوار المعرفة، وقد استمرت تلك المنهجية فى المعرفة لدى فلاسفة اليونان وأهل المنهج العقلى بعد سقراط، فكانت الفلسفة تهتم أول ما تهتم بالنظر إلى الإنسان والعالم وخالق هذا العالم -أو صانعه كما كان يطلق عليه حكماء هذا الزمان-، لتمثل تلك المعرفة الركيزة الأساسية للجانب العملى من الفلسفة المتمثل فى الأخلاق والاجتماع والسياسة والاقتصاد، إلى أن جاء القرن الثامن عشر حاملًا معه رياح التغيير بفضل الثورة الصناعية، التى استغرقها التعمق فى العلوم الطبيعية حتى كادت تهمل العلوم العقلية تمامًا، حيث يقول مثلًا مؤسس المنهج التجريبى المادى (فرانسيس بيكون) فى معرض كلامه عن الفلاسفة ومباحثهم الفلسفية فى النفس “إنهم تكلموا كثيرًا وعملوا قليلًا وكانت حكمتهم ثرثرة غير مجدية ولا منتجة”، إلا أن الطبيعة الإنسانية لا تتفق وتجاهل التساؤلات متى كان لها موضع، فما كان من تلك الثورة إلا أن تنصاع للطبيعة الإنسانية فى خوض غمار البحث عن أجوبة لتلك التساؤلات الاجتماعية والأخلاقية، حتى وإن اعتُلت تلك المباحث بنظرتهم الاستقرائية المادية.
وعلى الرغم من تلك البداية الرافضة لتلك المباحث والتى تعنونت بمقولة مؤسس المادية التجريبية، لم يلبث أن وقع فلاسفة المادية أسرى للإجابة على تلك الأسئلة الملحة، فبعد أن كانت كل الإجابات تتمحور حول شعار العلم هو الحل، وقد بدا ذلك جليًا فى وصف المدينة الفاضلة لبيكون والتى يبدو أنه قد وجد الحل فيها فى حكومة أقرب -من وصفه لها- إلى حكومة تكنوقراط متفرغة للتغلب على الطبيعة بالبحث العلمى المتواصل، ليقع أسيرًا لذلك اللغط فى المفاهيم، حول الفارق بين الغاية والسلوك أو الاستراتيجية والهدف، ليجعل من العلم الطبيعى الغاية والسلوك فى آن واحد، فى تهافت واضح لم يصمد طويلًا أمام الحاجة الإنسانية الطبيعية فى البحث عن معنى وغاية من وجوده، تلك الحاجة التى لم تستطع أن تخرج من الإطار الاستقرائى المادى للبحث العلمى، لتدور رؤاهم لمعرفة الإنسان حول جانبه المادى الحيوانى، فى أطروحات بدا أثرها سريعًا ليعلن دون قصد عن مدى جدوى تلك الثرثرة -كما أطلق عليها بيكون- فى التأثير على مناحى الحياة الإنسانية، ليس فقط فى الجانب العملى الاجتماعى بل وقد امتد ذلك الأثر إلى الجانب العلمي النظري، لا فقط فيما يخص الماورائيات والخوض فى عالم المعاني بل والتعاطي مع حقيقة الإنسان ذاته.
يعرف المناطقة الذاتيات بأنها هى “المقومة للأشياء فبانتفائها ينتفى الشىء”، بينما العرضيات هى “التى ليست مقومة للأشياء”، فبمعرفة ذاتيات الشىء تُعرف حقيقته، بينما العرضيات تكتفى برسم الشىء ووصفه وصفًا منقوصًا، فبالنظر إلى الإنسان نجد أن حقيقته (حيوان ناطق) أى جسم نامى متحرك بالإرادة يعقل ويعبر عما يعقله، أو هكذا يرى أهل المنهج العقلى البرهانى، بينما إن نظرنا إلى عرضياته فربما اكتفينا بما نراه من جسمانيته مع بعض ملامح من ذكاء أكثر تطورًا من غيره، لذا لم يكن من المستهجن أن نرى نظرية داروين حول الإنسان، متجاهلًا الجوانب الناطقية فيه واستحالة استحداثها مثلًا، وهكذا أصبح #الإنسان فى نظر الحضارة المادية جسدًا وفقط، مما يتبع ذلك التعريف من سعى حثيث لإشباع الرغبات الجسدية والشهوات الجسمانية دون النظر إلى أى جوانب أخرى، فأصبحت تلك النهضة العلمية الواضحة للعيان خادمة خاضعة للملذات الإنسانية فى تطور صورى عن أى حيوان، لا يرتقى عنه فى المكانة سوى بقدرته على إشباع حاجاته برفاهية أكثر، وما يتبع ذلك من تعريف مشوه لسعادات الإنسان الحقيقية وأولوياته، فأغفل الجوانب الروحية فيه وجعل الجوانب المادية هى الجانب الوحيد فيه، ولكن هل اقتصر الأمر على ذلك فقط؟!.
بالطبع لا فمع تلك النظرة القاصرة شديدة النقص لحقيقة الإنسان وطبيعة مسعاه كان لا بد أن يتسلل ذلك التشوه إلى العلوم نفسها، لا فى شكل نظريات طبيعية فقط كما أسلفنا، بل إن هذا القصور قد طال العلوم المختصة بدراسة #النفس الإنسانية نفسها، فنرى علم النفس والعلوم الاجتماعية وقد اكتفت بوصف النفس الإنسانية وأحوالها دون النظر إلى حقيقة النفس وطبيعتها الحقة الساعية للعدل والرقى الإنسانى، فتجد تلك العلوم وقد أطالت فى رسم ما يصيب النفس من أحكام وأحوال، بين حزن وكآبة وانفصام ورفض للواقع، ما جعل من تلك الأحوال العرضية مركزًا للبحث والدراسة، دون الاهتمام بالنظر إلى حقيقة النفس وما لها من ذاتيات تربطها بالواقع، لتخرج علينا تلك العلوم مصابة بعوار شديد، فقد اكتفت بوصف الأعراض النفسانية ومحاولة التعاطى معها للوصول إلى حالة من السلام النفسى أو البهجة المؤقتة، دون أن تضع غاية حقيقية لتلك العلوم بالارتقاء بالنفس الإنسانية إلى مراتب السعادة الحقة والوصول بالمجتمع إلى كماله الحقيقى.
لذا فعلى ما يبدو أن ذلك التساؤل حول معرفة نفسك الحقة ليس هين كما يبدو، ولا هو بالثرثرة ولا بالسفسطة التى لا طائل منها كما يبدو، ولكن هل يعنى كل ما سبق تجاهل الجوانب العلمية التجريبية؟! فى حقيقة الأمر أن تلك الثنائية تظل المسمار الأهم فى نعش أى فكر أو حضارة، فما بين العلوم الطبيعية والعقلية، وما بين الدين والعقل أو العلم، يظن البعض أن الإنسان هو ذلك الكائن أحادى البعد، لم لا؟! وقد انطلق فى بنائه المعرفى وقد تجاهل حجر الأساس فى حل أى معضلة بمعرفة معطياتها وصولًا إلى استظهار حقيقة مجهولها، فيسلك درب التعاطى والإنسان دون أدنى محاولات معرفة الإنسان بما هو إنسان، وما له من جوانب مادية وروحية، متأملًا أن تصدف ويصل إلى الحلول المثلى!! لذا فبادىء ذى بدء للخلوص إلى ما به يتكامل الإنسان ويرتقى عليك أن تبدأ بأن تعرف نفسك أولًا.
لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.
ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.
#بالعقل_نبدأ