اعتزل ما يؤذيك: احتضار المواجهة
المواجهة
ينبثق شجار بينهما، يتأجج الغضب في صدريهما، يتخاصمان ويتكور كل منهما في جانب.
يفتح كتابه المدرسي، تتمدد الواجبات أمام عينيه، يلكمه التثاقل، يتكور على هاتفه متراجعا عن حل الواجب.
يرن المنبه في الساعة الثامنة ليوقظه لمحاضرته التي تبدأ في تمام التاسعة، يتذكر طول المحاضرة وعرضها، فيتململ، يتكور على نفسه عائدا إلى سريره.
في كل ماسبق، يتسابق الأشخاص للتكور على النفس، على مايبدو، في الوقت الذي يصادفك منشور لأحدهم على حسابه في أحد مواقع التواصل الاجتماعي: “اعتزل مايؤذيك” منسوبة في أغلب القول والمرويات إلى الفاروق عمر رضي الله عنه.
يعقب صاحب المنشور عن أهمية هذه الحكمة الجليلة كلما كبرت في العمر، وقد يذيل نهاية المنشور بكلمة “مقصودة”! ليجعلني أفكر عن سبب تركه المواجهة المقصودة الشخصية، ويدفعني للبحث في معجم اللغة العربية المعاصرة عن معنى كلمة “الأذى”، لأتحقق من سلامة عقلي! تجد في المعجم ما يلي:
أذى: ضرر، مكروه،سوء.
آذاه الحر: أنضب نضارته وأذبله.
في حين لا يغيب عن ذهني معنى الترك المرادف للاعتزال.
أن تختل مفاهيمنا الصحيحة التي نبني عليها أفعالنا وردات أفعالنا، يعني اختلال الحياة بأسرها.
يتحول العفو والتجاوز في المثال الأول، من قبل أي من الطرفين إلى أذى لابد من تركه.
تتحول الواجبات المنزلية إلى أذى، تتحول المحاضرة إلى أذى، أذية مضنية لابد من اعتزالها جميعاّ!
الحقيقة هنا أن صاحب الشأن في كل مثال يعلم في باطنه تمام العلم أن ما يقوم به هو عين التخاذل والضعف والتقهقر عن طلب الفضل والخير، أي نقص من إنسانيته، وهو بذلك لا يسير إلا نحو كفة الشر وعين الأذى اللذين أراد أن يعتزلهما!
الشر، كلمة مخيفة نربطها دائما بالمجرمين والقتلة، في حين نمعن نحن في التوغل فيه، بتقاعسنا عن الخير. إننا بذلك نعود لنقطة الصفر التي منها انطلقنا.
يقول جوردون ديكسون: مواجهة الحقائق قد تكون أقل تكلفة من مواجهة الهزائم.
الحقيقة أننا نهرب من التسامح والتجاوز، أو الواجب المدرسي، أو المحاضرة الصباحية، هربا جبانا، لا اعتزالا إراديا، نرفض حقيقة أننا من قد بدأنا الشجار لسبب لا قيمة له، أو حتى أن ما أخطأ به الآخر لايستحق قطيعة دبلوماسية، و نهرب من كون تمدد الواجب قد حدث لإهمالنا في إتمامه أولا بأول، نهرب من حقيقة أننا سهرنا متأخرين على الانترنت ، لذلك عجزنا عن الاستيقاظ واللحاق بالمحاضرة.
نرفض الحقائق فتتراكم الهزائم النفسية والمعنوية، التي هي عين الأذى، التي تنتهي بأن تُوهن معها أبداننا أيضا، وهاهي أذية أخرى نسببها لأنفسنا نضيفها للحساب الذي لم نود فتحه أصلا! اعتزلت بفهمك الخاطئ، أو بهواك المتثاقل، فركض الأذى وراءك ركضا!
يقول شوقي –أمير الشعراء- في شطر بيت له: وجدت شجعان العقول قليلا
نعم شجاعة العقل المتمثلة في التمييز بين الصواب والخطأ، بين الأذى الحقيقي وبين ما نتوهمه أذى بمفاهيمنا الخاطئة، نتعالى بأهوائنا عن المواجهة العقلية التي ندرك تماما أنها ستكشف زيف اعتزالنا، متناسين أو ناسين أن الكشف الطبي هو المفتاح التشخيصي للمرض، ومن ثم مداواته.
إن الاعتزال الصائب بمعناه الحرفي، يكون عن صحبة السوء، عن إضاعة الأوقات، عن الأخلاق المتسافلة، عما يضر البدن والروح، عن النظر لما يخدش الحياء، عن اللغو السفيه، أن تعتزل غشك لضميرك.
وأحيانا يتطلب الاعتزال صبرا في مواجهة الأذى الذي لا فكاك منه، كأذى أحد الأقارب، كالصبر على سب أو شتم وعدم الرد بالمثل، أن تصبر على سوء مزاج صديق يمر بظروف صعبة. تنأى عن رد الأذى بمثله، اعتزالا للأذى نفسه.
إننا بهذا الاتزان العقلي والنفسي في مواجهة الأمور اليومية، نحقق الارتقاء نحو المواجهة الأعلى للقضايا الأكبر التي تآذت كثيرا من اعتزالنا لها.
أقرا أيضاً:
الأحياء الأموات .. نادر يتعجب من نمط حياته!