مقالاتأسرة وطفل - مقالات

اضرب يلا وفن التربية .. التربية والتعليم وعلاقتهم ببناء الإنسان

في واقعة جديدة من نوعها، أمرت معلمة في مدرسة بسنديلة الإعدادية التابعة لإدارة بلقاس التعليمية بمحافظة الدقهلية، إحدى التلميذات بمسح حذائها الذي ترتديه، وذلك عقابا لها بعد تعثرها في قدم المعلمة أثناء حصة التربية الرياضية، وسط دهشة زملاء التلميذة!

وقالت التلميذة (سلو.م): أنها أثناء اللعب مع زميلاتها في حصة التربية الرياضية، تعثرت و (داست) على قدم (إيمان.ا) معلمة الحصة دون قصد، واعتذرت لها، إلا أن المعلمة لم تقبل الاعتذار، ونهرتها قائلة: “إنتي عامية” ثم وبختها بشدة.

وأكدت سلوى أنها كررت اعتذارها للمعلمة، لكنها رفضت الاعتذار ولم تتقبله مجددًا، متابعة: “إدتني منديل وطلبت منى أمسح لها الجزمة”.

وأضافت التلميذة: “لما رفضت، خلعت الجزمة وأصرت إني أمسحها”، مشيرة إلى أن (الخوف دفعها لمسح الحذاء).

هكذا كان نص الخبر الذي أوردته جريدة التحرير الإخبارية بتاريخ 10 أكتوبر 2018، حول واقعة جديدة من وقائع تعدي بعض المعلمين على الطلبة بشكل غير آدمي، سواء كان هذا التعدي لفظيًّا أو بدنيًّا أو نفسيًّا.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

خبر ربما اعتادت آذاننا سماعه وأعيننا رؤيته، حتى يكاد أن يصبح جزءًا من روتين حياتنا اليومي، طفل يُضرب بقسوة، وآخر يُهان، وثالث يُلتذ بتعذيبه… ويأتي الاعتياد ههنا ليس من تكرار الحادث، فبلحاظ النسبة والتناسب تظل تلك الحوادث واقعة ضمن حيز الحوادث الفردية وليست الظاهرة المجتمعية، بالنظر إليها خارج السياق الفكري العام، حيث تسود نظرية العنف، لا العنف في التربية وإنما العنف لذاته.

ما الفارق؟

العنف في التربية مرفوض شكلًا وموضوعًا لا جدال في ذلك، حيث تغلب آثاره السلبية على آثاره الإيجابية، ولما كان ما يميز الإنسان هو العقل، الباحث عن النافع والضار طبقًا لحسابات المنطق حول الجوانب السلبية والإيجابية، لرؤية مدى جدوى الفعل، فإن العنف في التربية قد يولد طاعة،

ولكنها طاعة جبانة عمياء إن لاحت لها الفرصة فسدت وأفسدت، وإن استطاعت إلى العصيان سبيلًا ما ترددت، كما يولد شخصية عنيفة لن تجد حرجًا في استخدام العنف والتسلط على من هو أضعف دون مبرر أو سبب حقيقي، فاقدة للثقة بالنفس والقدرة على الإنجاز والنجاح، لا ترى ما يتعدى ذاتها الضيقة فلا طائل يرجى منها للمجتمع.

إلا أن العنف لذاته وهي الشخصية الناتجة عن التربية العنيفة، فلم تعرف غاية للتربية أو العنف، أصبحت ترى في العنف غاية لا مجرد آلية يمكن تقييمها، فالعنف في التربية يبحث عن تقويم الآخر، ولكنه أخطأ الهدف والمسار، بينما العنف لا يبحث عن تقويم أو إصلاح وإنما غايته العنف، فأصاب الهدف والغاية، ولكنها غاية لا تُرجى وهدف لا يُؤمَل.

ما العمل؟

كأي معضلة تواجه الإنسان، وأي سلوك يسعى له، لا بد من فهمه أولًا، ولا يكون الفهم إلا بمفهوم، ولا يكون المفهوم إلا بتعريف، وبالعودة إلى القضية المطروحة، نجد أن المفهوم الرئيسي هنا هو (التربية)، والتربية كما يعرفها (الفارابي) هي “طريق إيجاد الفضائل الخلقية والصناعات العملية في الأمم … هو أن تعود الأمم والمدنيون الأفعال الكائنة عن الملكات العملية وبأن تنهض عزائمهم نحو فعلها، وأن تصير تلك وأفعالها مسؤولية على نفوسهم، ويجعلوا كالعاشقين لها.

وإنهاض العزائم نحو فعل الشيء ربما كان بقول وربما كان بفعل”، أي أن التربية هي تهيئة الفرد الإنساني للفعل الصحيح والسلوك القويم، شرط أن ينبع هذا السلوك من إرادته ومحبته وعشقه لهذا السلوك، والإرادة لا تكون إلا بعلم وتعليم، والتعليم كما يرى (الفارابي) هو “إيجاد الفضائل النظرية في الأمم والمدن، والتعليم هو بقول فقط”، فالعملية التعليمية هي دراسة تلك السلوكيات من الناحية نظرية فقط، سعيًا في أن تتحرك لها الإرادة بعد المعرفة والحب.

وكلًا من عمليتي التربية والتعليم تتركز حول الإنسان، لما كان الإنسان مُريدًا، أي مختارًا، فكان مفهوم الإنسان هنا أولى بالنظر والدراسة، وقد اتفق الحكماء على كونه “حيوانًا ناطقًا؛ أي جسم نامي متحرك بالإرادة يعقل الشيء ويعبر عن هذه العقلانية بصورة ما”، وخلق العقل وكماله في الحكمة أو “وضع الشيء في موضعه”، ويكون ذلك بخدمة غاية وجود الشيء، فإن غابت الغاية ساد العبث.

وبالعودة إلى الخبر السابق أو الحوادث المختلفة التي يكون فيها العنف هو سيد الموقف، فما هي غاية المعلمة في هذا الموقف، التربية؟ محال، فأي تربية تكون بالإهانة، وأي تقويم وتربية وارتقاء للإنسان يكون بإذلاله أو الحط منه، أذكر خبرًا تناول تقييد أب -وأعتذر عن إطلاق صفة الأبوة أو الإنسانية حتى على أمثاله- لابنه بالسلاسل لمدة شهر أمام باب المنزل ومعاملته كحيوان لمدة شهر عقوبة له على عدم الطاعة!

ما الذي دار بخلده؟ حقيقة لا أستطيع تصور سوى كثير من الحماقات حول كسر الأضلاع، واختلال مفاهيم الالتزام وارتباطها بالطاعة العمياء أو الاستيقاظ مبكرًا، دون أي فهم حقيقي لدلالة تلك الألفاظ حول تنشئة إنسان حقيقي، يمارس إنسانيته التي من شأنها أن ترتقي بالكون كله، وأن تحقق غاية الخالق من خلقه، في إقامة الإنسان للعدل في نفسه وفي مجتمعه وعالمه.

ولكن من أين ولد الخطأ؟

يتصادف أثناء سفره للعمل بالخارج أن اضطر للعمل مع رجل هندي سيء الخلق والطبع، لم يكف آذاه عمن حوله طوال فترة العمل، ليرجع من تلك السفرة وهو مقتنع تمام الاقتناع أن (الهنود سيئو الخلق والطباع، والعمل معهم جحيم لا ينتهي)، هكذا هي العقلية الاستقرائية التعميمية، التي تحاول تجنب آلام الموضوعية والدراسة المتأنية إلى الراحة الزائفة الممثلة في الحكم السريع السهل، حكم أشبه بالمعلبات والأطعمة السريعة،

يبدو لذيذًا وسهل الحصول عليه وسريعًا ولكن ضرره أكبر، قد يكون مفيدًا أحيانًا ولكن بشرائط ولظروف بعينها، ولكن لا يستطيع الإنسان العيش به وحده، فما بالك وأنت تعتمد على هذا الحكم السريع في تحديد وتصور واحدة من أهم العمليات الإنسانية والأكثر تمييزًا للإنسان، لا شك أن الهلاك هو المصير.

فبالنظر إلى مجموعة من النظريات التعليمية والتربوية، تجد أن الشريحة الأولى للتجارب التي أنتجت تلك النظريات تعتمد على قردة وغربان! وكأن تلك النظريات قد اكتفت بأن للإنسان جسمًا حيًّا كما للحيوان! فتحولت العملية التربوية إلى عملية هي للتدريب أقرب، لا للتقويم وإعداد إنسان سوي نفسيًا وبدنيًا وأخلاقيًا، وقبل كل شيء عقليًا، قادرًا على البحث عن الحقيقة والنقد والتمحيص والسلوك، فكان الاستقراء هو الخصم وهو الحكم في عملية إعداد وتهيئة النشء الإنساني.

والحل؟

لا بد أنك قد استطعت أن تقرأ الحل بين السطور، هو الاعتصام بحبل العقل، والنظر إلى المفاهيم نظرة عاقلة متأنية باحثة عن الحقيقة بغض النظر عن التطبيقات المحيطة، للوصول إلى تربية ذات غايات تتخطى الوجود المادي إلى الوجود الإنساني المجرد العام، بما له من سيادة على الكون، تهدف إلى الوصول بالكون كله إلى كماله،

لما للإنسان من قدرات يستطيع معها أن يلمس النجوم بفكره، أو كما قال سيدنا علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه-: “وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر”، وقد انطوى حقًا وصدقًا لما لك من إمكانية على أن ترتقي إلى أعلى عليين أو تهوى إلى أسفل سافليين درجات تكاد معها الحيوانات والبهائم أن تكون أكرم منك.

عملية تعليمية تهدف إلى معرفة القيم الإنسانية والتعلق بها، وعملية تربوية تسعى إلى إنسان يتحلى بالخلق وينتهجها، وفعل يبدأ من الفكر السليم ويرتبط به دومًا، ومجتمع يبحث عن الكمال، فتتضافر كل جهوده لتحقيقه، فلا ترى فنًّا يمجد في العنف وقيم الشهوة والتسلط، ولا أدبًا يداعب الجوانب الحيوانية،

ولا إعلامًا ينفر من الحقيقة أينما وجدت ويتفنن في لي الحقائق، ونخبه تعلم جيدًا أنها تحمل على كاهلها أن يصل كل فرد إنساني في المجتمع إلى كماله، فيصبح الفعل كله إنسانيًّا غائيًّا منتجًا، بعيدًا عن التعلق بالآليات وخاصة الحمقاء العبثية منها.

اقرأ أيضا:

يعني ايه تربية ؟ ( الجزء الأول ) – ما المقصود بالتربية ؟ وما هو تأثير القدوة ؟

يعني ايه تربية؟ ( الجزء الثاني ) – دور البيئة في عملية التربية وصناعة الإنسان

يعني ايه تربية ؟ ( الجزء الثالث ): تأثير الصحبة والمدرسة ووسائل الإتصال والقادة

محمد صابر

مهندس حر

باحث في علوم التربية وفلسفة التعليم بمركز “بالعقل نبدأ”

دراسات عليا في كلية التربية جامعة المنصورة

حاصل على دورة إعداد معلم (TOT) من BRITCH FOUNDATION TRAINING LICENSE المعتمد من الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة

حاصل على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية